سوريا وأذربيجان: العلاقات التاريخية والمصالح الآنية
تاريخياً:
تربط سوريا وأذربيجان جذور تاريخية عريقة. ويكفي أن نتذكر أن السيد يحيى شيرواني (1394-1464)، الشاعر الأذربيجاني البارز، وممثل المدرسة الصوفية، قد استلهم من المدرسة الشعرية الدمشقية.
كما انتقل الشاعر والمفكر الأذربيجاني الكبير عماد الدين نسيمي، الذي اضطهدته السلطات الدينية بتهمة الهرطقة في بداية القرن الخامس عشر، إلى سوريا – حلب أولًا، ثم دمشق، وقضى هناك أزهى سنوات حياته. وفي دمشق، وبعد محاكمة أمام السلطات الشرعية، حُكم على نسيمي بإعدام مؤلم. ويقع قبره في دمشق، ويُعتبر مزارًا لمحبي الشعر الصوفي والتركي.
التطور التدريجي للعلاقات بين سوريا وأذربيجان:
في 16 يناير/كانون الثاني 1992، اعترفت سوريا باستقلال أذربيجان، وفي 28 مارس/آذار 1992، أُقيمت علاقات دبلوماسية بين البلدين. ورغم العلاقات الوثيقة بين سوريا وأرمينيا وحرب كاراباخ الأولى (1988-1994)، سعت باكو ودمشق إلى تطوير العلاقات الثنائية. ورغم أن هذه العملية لم تكن مماثلة لتلك بين يريفان ودمشق، إلا أن أذربيجان افتتحت سفارة لها في دمشق في مايو/أيار 2008.
في 9 يوليو/تموز 2009، قام بشار الأسد، بأول زيارة رسمية له إلى أذربيجان. واتفق الطرفان على توريد ما بين مليار و1.5 مليار متر مكعب من الغاز الأذربيجاني إلى سوريا. خلال الزيارة، عُقد منتدى أعمال أذربيجاني-سوري مشترك. في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، توصل الطرفان إلى اتفاق بشأن التفاصيل الفنية لشراء الغاز الطبيعي لمدة 20 عامًا. في ديسمبر/كانون الأول 2011، بدأت أذربيجان تصدير الغاز إلى سوريا عبر تركيا وجورجيا.
تدهور العلاقات بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا
بعد انطلاق الثورة السورية في 18 آذار 2011، واندلاع الحرب الأهلية في سوريا، تدهورت العلاقات بين أذربيجان وسوريا تدريجيًا. ورغم أن أذربيجان، كقوة صغيرة في سياق النظام الدولي الحديث، سعت إلى عدم التدخل المباشر في الصراع السوري، إلا أن ما كان يحدث كان لا يزال يؤثر على موقف باكو. أولًا، من وجهة نظر دينية، تُعتبر أذربيجان، على عكس أرمينيا المسيحية، دولة إسلامية.
لذلك، أثّرت الحرب الأهلية في سوريا وظهور جماعات إرهابية مختلفة، مثل داعش وجبهة النصرة، ذات الأفكار الدينية المتطرفة، على المجتمع الأذربيجاني رغم بُعده الجغرافي عن سوريا. ووفقًا لتقديرات مختلفة، حارب ما بين أربعمائة وألف مواطن أذربيجاني من أجل “الخلافة”. على الرغم من ضآلة عدد المقاتلين الأذربيجانيين في الحرب الأهلية السورية، إلا أن الأفكار السلفية قد تُهدد السلطة السياسية العلمانية في باكو.
ثانيًا، من الناحية السياسية، تشهد باكو حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي. على سبيل المثال، أُزيل تمثال الرئيس المصري السابق حسني مبارك من ضواحي باكو واستُبدل بنصب تذكاري أكثر حيادية. ورغم علاقاتها الوثيقة والاستراتيجية مع تركيا، لم تستطع باكو دعم المعارضة السورية وتغيير الحكومة في دمشق علنًا. في الوقت نفسه، لم ترغب باكو في دعم حكومة بشار الأسد، الحليف الوثيق لأرمينيا وروسيا وإيران. وقد أدى هذا التناقض إلى اتباع أذربيجان نهجًا حذرًا تجاه الأزمة السورية. واضطرت أذربيجان إلى دعم قرار جامعة الدول العربية بتعليق عضوية سوريا كعضو غير دائم في مجلس الأمن منذ أكتوبر/تشرين الأول 2011، لكنها حافظت على موقف حذر. التزمت الحكومة الأذربيجانية الصمت حيال الأزمة السورية، واعتبرت الجمود الدموي في سوريا تطورًا إيجابيًا.
وتعتقد أن العنف الطائفي الفوضوي الذي أعقب الانتفاضة ضد الأسد قد أضعف أي محاولات لتغيير الحكومة في باكو. ونتيجة للحرب الأهلية في سوريا، نُقلت سفارة جمهورية أذربيجان في البلاد إلى بيروت. كما اتهمت باكو سوريا بالتعاون مع أرمينيا في إعادة توطين الأرمن السوريين في قره باغ، وفي 2 يناير/كانون الثاني 2018، دعمت أذربيجان العملية التركية في عفرين بسوريا ضد حزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب الكردية وميليشيات داعش.
دخلت الخلافات بين باكو ودمشق مرحلة جديدة في حرب قره باغ الثانية (27 سبتمبر/أيلول – 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020). بينما اتهمت أرمينيا وسوريا تركيا وأذربيجان بإرسال مقاتلين سلفيين سوريين إلى جبهة قره باغ، اتهمت باكو وأنقرة سوريا وأرمينيا بوجود الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا (ASALA)، ووحدات حماية الشعب (YPG)، وحزب العمال الكردستاني (PKK) في المنطقة. وقد أدى ذلك إلى ضعف حاد في العلاقات بين دمشق وباكو.
العلاقات تتجدد بين سورية وأذربيجان في العهد الجديد
في ١٢ يوليو/تموز، وصل الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إلى أذربيجان في زيارة رسمية، وتعد باكو ثاني عاصمة يزورها خارج منطقة الشرق الأوسط بعد باريس.
وأشار الاجتماع إلى أهمية التعاون بين البلدين في قطاع الطاقة، وقيل إن سوريا تواجه حاليًا مشكلة طاقة خطيرة. وفي هذا الصدد، تم التأكيد على أنه سيتم تنفيذ مشروع لتصدير الغاز الأذربيجاني إلى سوريا عبر تركيا في المستقبل القريب. سيساهم ذلك في ضمان أمن الطاقة في سوريا. كما أُشير إلى أن أذربيجان قادرة على المساهمة في استعادة قطاع الطاقة في سوريا، وفقًا للبيان المنشور على الموقع الإلكتروني لرئيس أذربيجان.
وأكد أحمد الشرع، وفقًا للتقرير، على “أهمية مساهمة أذربيجان في حل مشاكل الطاقة الخطيرة التي تواجهها بلاده حاليًا، مشيرًا إلى أن ذلك سيخدم تنمية سوريا”. أعرب الرئيس السوري عن اهتمام دمشق بالتعاون مع باكو في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والثقافية والإنسانية وغيرها.
من جانبه، أكد علييف على “الآفاق الواعدة” لتطوير العلاقات الثنائية بعد تشكيل الحكومة الجديدة في سوريا.
وذكر التقرير أن “الاجتماع تطرق أيضًا إلى قضايا التعاون بين البلدين في المجال الإنساني، ولا سيما في مجالي التعليم والثقافة، وتبادلا وجهات النظر حول تقديم منح دراسية للطلاب السوريين للدراسة في أذربيجان”.
تسعى جمهورية أذربيجان، بالتعاون مع حليفتها الوثيقة تركيا، إلى بناء علاقات مع القيادة السورية الجديدة. ومن النتائج المهمة وطويلة الأمد لذلك توافق مواقف سوريا وتركيا وأذربيجان في جنوب القوقاز.
إلا أن هذا ليس أول اتصال للشرع بالرئيس إلهام علييف. ففي وقت سابق من هذا العام، التقى رئيسا أذربيجان وسوريا في 14 نيسان الماضي، خلال منتدى دبلوماسي في أنطاليا. حينها، وجّه الرئيس الأذربيجاني دعوةً إلى نظيره لزيارة باكو في أي وقت مناسب. ويبدو أن الشرع لم يُؤجّل هذه الدعوة طويلاً، فبعد أقل من ثلاثة أشهر، حطّت طائرته في مطار حيدر علييف الدولي في باكو.
أبدى الجانب الأذربيجاني استعداده للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، لا سيما في مجالات الطاقة والبنية التحتية والأمن. علاوة على ذلك، اتُّخذت خطوات عملية في هذا الاتجاه خلال الفترة الماضية. وغالبًا ما تتزامن هذه الخطوات مع إجراءات أنقرة، التي تفتح معها علاقات التحالف آفاقًا جديدة لأذربيجان في تنفيذ استراتيجيتها في السياسة الخارجية. في ظل الظروف المعاصرة، وفي سياق بناء علاقات استراتيجية جديدة تربط الدول والمناطق، تكتسب العلاقات الأذربيجانية السورية أهمية خاصة لدى الجانبين.
وفي 5 من أيار، كان قد عقد وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، اجتماعًا مع نائب رئيس مجلس الوزراء الأذربيجاني، سمير شريفوف، لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين. وناقش الجانبان فرص تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين، مما يسهم في فتح آفاق جديدة للتبادل التجاري والتنمية المشتركة في قطاعات متنوعة. يُذكر أن جمهورية أذربيجان أعادت فتح سفارتها في سوريا، في 4 من كانون الثاني، بعد انقطاع دام 12 عامًا، كخطوة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
دور الوسيط الاذربيجاني بين سوريا وإسرائيل:
إن المكانة الرفيعة التي يتمتع بها إلهام علييف في المنطقة، بالإضافة إلى علاقاته الشخصية الودية مع عدد من قادة الشرق الأوسط – حتى مع من هم في مواجهة أحيانًا – تُمكّن أذربيجان من القيام بدور الوسيط في تسوية النزاعات الإقليمية.
ساهمت باكو في تخفيف حدة التوترات بين سوريا وإسرائيل.
ففي مايو/أيار، عُقدت في باكو مفاوضات سرية بين ممثلين رفيعي المستوى من أجهزة الأمن الإسرائيلية والسورية بوساطة من أذربيجان وتركيا. حضر الاجتماع اللواء عوديد باسيوك من إسرائيل وممثلون عن “السلطات الجديدة” في سوريا. كما شارك ممثلون عن تركيا في المحادثات.
وتمت مناقشة استقرار الوضع على الحدود الشمالية لإسرائيل ومنع وقوع حوادث من خلال تنظيم اجتماعات قائمة على مبادئ “الدبلوماسية الهادئة” في إطار عملية التفاوض.
وأفادت المصادر أن الطرفين ناقشا استقرار الوضع على الحدود الشمالية لإسرائيل. ولم تُكشف تفاصيل اللقاء.
علاوةً على ذلك، لعبت أذربيجان دورًا محوريًا في إنشاء آلية “الخط الساخن” للتسوية السريعة للخلافات بين تركيا وإسرائيل، بما في ذلك بشأن القضية السورية. كل هذا يجعل باكو إحدى الحلقات المهمة في نظام الأمن الإقليمي الناشئ.
التعاون الاقتصادي:
أصبح تصدير الغاز الأذربيجاني إلى السوق السورية مجالًا جديدًا للتعاون بين أذربيجان وسوريا. في عام 2025، أكدت وزارة الطاقة التركية رسميًا مشاركة أذربيجان، وخاصةً شركة النفط والغاز الاذربيجانية (سوكار)، في مشروع تزويد سوريا بالغاز والكهرباء. يتعلق الأمر بتوريد ما يصل إلى ملياري متر مكعب من الغاز سنويًا وتوليد حوالي 1000 ميغاواط من الكهرباء – وهو نطاق يمكن أن يكون له تأثير حقيقي على الوضع الإنساني وترميم البنية التحتية المدمرة في المحافظات الشمالية من سوريا.
أكمل الجانب التركي بالفعل بناء خط أنابيب غاز جديد يربط كلس بحلب، وبدأت عمليات التسليم التجريبية إلى شمال سوريا بحلول منتصف عام 2025.
تجدر الإشارة إلى أن أذربيجان لا تعمل كمورد للغاز فحسب، بل أيضًا كشريك محايد سياسيًا قادرًا على العمل في آن واحد مع مختلف مراكز القوة في المنطقة – من تركيا وإسرائيل إلى السلطات الجديدة في سوريا ودول الخليج. وعلى عكس القوى الكبرى، تقدم باكو نموذجًا للتعاون أقل أيديولوجية، قائمًا على البراغماتية، ورابط طاقة، ورغبة في تعزيز نفوذها دون تدخل عسكري أو سياسي مباشر.
خلال الزيارة وقعت شركة النفط الحكومية الأذربيجانية (سوكار) والحكومة السورية مذكرة تفاهم. وقّع الوثيقة وزير الاقتصاد الأذربيجاني، رئيس مجلس إدارة شركة النفط الحكومية الأذربيجانية (سوكار)، ميكائيل جباروف، ووزير الطاقة السوري، محمد البشير.
ولم يُكشف عن تفاصيل الوثيقة الموقعة.
قراءة المنافع المتبادلة:
بعد عزلة سياسية لسنوات طويلة، تحاول السلطة في دمشق تحطيم حاجز الوحدة، وتخطو نحو إقامة علاقات مع نظرائها، كمحاولة لإعادة مكانتها الدولية. وترسم شبكة العلاقات الجديدة لدمشق، تموضعها الجديد، أقرب إلى المعسكر الغربي، ما بدا بوضوح بالاتفاق مع الولايات المتحدة، وبعلاقات مع دول لم تحظ خلال حكم الأسد بحضور في سوريا، كأذربيجان وكوريا الجنوبية.
ويترجم الانفتاح السياسي العربي والدولي، الذي يطرأ على المشهد السوري، بالوفود الدولية إلى سوريا، والزيارات الرسمية التي يجريها الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أو وزير الخارجية، أسعد الشيباني.
تعزيز العلاقات بين أذربيجان وسوريا، تجسد رغبة الطرفين في التأسيس لعلاقات جديدة بعد التحول الكبير الذي جرى في بنية الحكم في دمشق. وذلك يأتي انطلاقًا من رؤية أذربيجان إلى سوريا باعتبارها نواة للاستراتيجيات السياسية الكبرى في الشرق الأوسط.
ويُعزى ذلك إلى موقعها الجغرافي المتاخم لإسرائيل من جهة، ولكونها كانت في عهد الأسد مرتكزًا جغرافيًا لسياسات إيران تجاه دول المنطقة، وزوال الأسد ربما يفتح أمام أذربيجان أفقًا جديدًا لأخذ دور فاعل في المنطقة.
إن التعاون بين سوريا وأذربيجان، يولّد العديد من الفرص الاستثمارية، والفرص التعاونية بين البلدين، كون المناخ الاقتصادي بأذربيجان، مناخ متطور، وتستطيع سوريا الاستفادة من هذا المناخ.
من أبرز القطاعات التي يمكن التعاون فيها، قطاع الزراعة، كون أذربيجان متطورة جدًا بالزراعات الذكية، وخاصة في الظروف شبه الجافة، وهذا يرتبط بجفاف المياه الذي تعانيه سوريا حاليًا، ويعتبر هذا التعاون خطوة أولى بين البلدين.
ويمكن لسوريا الاستفادة من العلاقة الاقتصادية لها مع أذربيجان أن تطور حقول النفط، وتستكشف حقول جديدة. “ولا يهمل القطاع التكنولوجي والاستفادة من الخبرات الأذربيجانية بهذا القطاع”، وذلك من خلال توطين القطاع بسوريا بشكل أساسي، فدائمًا تتم الدعوة لعدم استيراد التكنولوجيا، ولكن يوجه لتوطين هذه الصناعة في سوريا، وهذا يحتاج لمراكز بحوث واستثمارات ضخمة، والاستفادة من خبرات الدول الأخرى كأذربيجان.
الزيارة تحمل دلالات سياسية عميقة، إذ تأتي في إطار إعادة التموضع الإقليمي لسوريا، وانفتاحها على شركاء جدد بعد سنوات من العزلة السياسية. وتؤشر العلاقة بين البلدين إلى مرحلة جديدة في علاقات سوريا الخارجية، لا سيما مع دول آسيا الوسطى.
أذربيجان تنظر إلى سوريا كطرف فاعل في المعادلة الإقليمية، خاصة في ظل التقاطعات الجيوسياسية المرتبطة بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتطمح، وبما تملكه من علاقات جيدة مع تركيا، أن يكون لها دور في سوريا بما يخص الصراع العربي- الإسرائيلي، فضلًا عن رغبتها بأن يكون لشركاتها نصيب في عملية إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا.
“باكو تدرك أهمية الموقع الجغرافي والسياسي لسوريا في قلب الشرق الأوسط، وتسعى إلى تعزيز حضورها في المنطقة من خلال مشاريع النقل والطاقة وشراكات استراتيجية تُمكّنها من توسيع نفوذها الدبلوماسي” ،.
تعزيز العلاقات مع دمشق يخدم أهداف أذربيجان في بناء توازن سياسي جديد في المنطقة، لا سيما في ظل التغيرات المتسارعة على المستويين الإقليمي والدولي.