web analytics
spot_img

ذات صلة

مساجد تُفخّخ مستقبل سوريا: حين تُزرع القنابل في عقول الأطفال

بقلم: شادي عادل الخش

في زمن تتكاثر فيه العناوين الكبرى التي تهيمن على المشهد السوري – من العدالة الانتقالية إلى إعادة الإعمار، ومن الصراع الجيوسياسي إلى توازنات الفصائل – يتوارى عن الأضواء ما هو أشد خطورة، وأطول أثرًا: التفاصيل الصغيرة، اليومية، التي تتسلل في حياة السوريين دون ضجيج، لكنها تمهّد لمستقبل بالغ التعقيد والخطر. أحد أخطر هذه التفاصيل، والتي باتت تتخذ ملامح بنية موازية داخل المجتمع السوري، يتمثل في ما يجري اليوم في بعض المساجد المنتشرة في المدن الكبرى، حيث يجري، بصمت مخيف، تفخيخ الطفولة والمراهقة بأفكار متشددة، تكاد تعيد إنتاج النواة الصلبة للعنف باسم الدين، في غفلة من الزمن، وانشغال الدولة، وانهيار الرقابة.

مع انحسار السلطة المركزية التقليدية، تراجع دور أجهزة الدولة التي كانت تدير الشأن الديني بعقل أمني، وإن كان خانقًا. هذه السلطة الأمنية التي كانت تراقب الخطب، وتعيّن الخطباء، وتتحكم في تفاصيل التعليم الديني، انهارت أو تراجعت في كثير من المناطق، مخلفةً فراغًا استراتيجيًا سرعان ما تدفقت إليه تيارات متعددة، بعضها عقائدي صرف، وبعضها ينتمي إلى مدارس متطرفة في الفكر والسلوك. في ذلك الفراغ، لم يكن للطفولة السورية حصانة. بل على العكس، وجدت هذه التيارات في الأطفال والمراهقين تربة مثالية، طيعة، قادرة على التلقّي، يسهل غرس الأفكار في وجدانها، خاصة حين تغيب المدرسة، ويضعف دور الأسرة، وتنهار البدائل التربوية والثقافية.

مساجد تُفخّخ مستقبل سوريا

مساجد تُفخّخ مستقبل سوريا حين تُزرع القنابل في عقول الأطفال

ما يحدث ليس مجرد حضور ديني، بل هو نمط محدد من التعليم والتلقين العقائدي، قائم على التصنيف، والتكفير، وبث الكراهية، واختزال الدين في شعارات متشددة ومنظومات جاهزة للتعامل مع الآخر كعدو. أطفال في عمر العاشرة أو أقل، يحفظون عبارات كـ”مرتد”، و”كافر”، و”الولاء والبراء”، ويتداولونها في ما بينهم كجزء من لغتهم اليومية. المثير للقلق أن هذا لم يعد أمرًا نظريًا أو معزولًا.

في شوارع بعض المدن، كما في حمص مثلًا، يُلاحظ العابرون شجارات بين مراهقين تتضمن استخدام كلمة “مرتد” كشتيمة. وهذا ليس تعبيرًا عن اختلاف رأي، بل هو انعكاس لما يُقال ويُعلّم ويُبث داخل بعض المساجد، بصيغة غير خاضعة لأي مراجعة معرفية، أو رقابة تربوية، أو مساءلة دينية حقيقية.

اللافت هنا أن هذه الظاهرة لا تتوسع بسبب قبول اجتماعي واعٍ بها، بل نتيجة غياب البديل، وضعف الدولة، وافتقار كثير من الأسر إلى القدرة على توجيه أبنائها في ظل الانهيارات الشاملة التي يشهدها المجتمع. فبينما يعزف كثير من الكبار عن ارتياد هذه المساجد، إدراكًا منهم لطبيعة الخطاب السائد فيها، ينجذب الأطفال والمراهقون بدافع الفضول، أو لأن المسجد هو المساحة الوحيدة المفتوحة أمامهم، أو لأنهم يتلقّون أوامر عائلية بذلك، في ظل تصور مجتمعي قديم يربط بين المسجد والانضباط الأخلاقي.

ما يُزرع اليوم في عقول الأطفال لا يمكن فصله عن مستقبل الدولة والمجتمع. فحين يكبر هؤلاء وقد تشكل وعيهم على مفاهيم الإقصاء، والتكفير، واحتقار الآخر، ورفض التنوع، فإنهم لن يكونوا مواطنين في دولة قانون، بل سيكونون حاملي مشاريع عقائدية مغلقة، يصعب دمجهم، ويستحيل تطويعهم لبناء وطن تعددي متماسك. هنا تتجلى الخطورة البنيوية: نحن لا نواجه خطابًا طارئًا، بل بذورًا فكرية تتكاثر وتنتشر، دون أن تثير الإنذار الكافي في دوائر القرار والسياسة والمجتمع المدني.

الاستقراء المنطقي لما يجري يفرض قراءة أكثر تشاؤمًا مما نرغب. فعلى المدى الطويل، سنواجه جيلاً يعاني من تشوه معرفي عميق في فهم الدين، والمجتمع، والذات، والعالم. وسنكون أمام فئة واسعة ترى في الدولة الوطنية عدوًا، وفي الديمقراطية ضلالًا، وفي المخالف تهديدًا يجب استئصاله. وحينها، لن نكون قد خسرنا فقط معركة الحاضر، بل سنكون قد فجّرنا قنبلة زمنية ستنفجر في قلب المستقبل.

إن الحديث عن إعادة الإعمار، أو العدالة الانتقالية، أو بناء مؤسسات جديدة، يفقد معناه إذا لم يُسبق بوقفة جادة أمام هذه الظواهر. نحتاج إلى سياسة دينية وطنية، مستقلة عن الأجهزة الأمنية من جهة، وعن الأدلجة السياسية من جهة أخرى. نحتاج إلى رقابة تربوية، تشرف على الخطاب الديني الموجّه للأطفال، وتمنع استغلالهم فكريًا. نحتاج إلى دعم مجتمعي للأسرة، وتمكين المدرسة، وتوفير بدائل ثقافية تُشبع الحاجة الروحية والمعرفية للأطفال دون أن تُلقي بهم في براثن التكفير والتحريم والانغلاق.

مساجد تُفخّخ مستقبل سوريا

المسألة لا تتعلق بالدين، بل باستغلال الدين. ولا بالخوف من التربية الإسلامية، بل بالخوف من تسييسها وتفخيخها. لسنا في صراع مع الإسلام، بل في مواجهة مع من حولوه إلى أداة أيديولوجية لزرع الكراهية. وإذا لم نبدأ الآن، فإننا ببساطة سنجد أنفسنا، بعد سنوات قليلة، في مواجهة مع جيل كامل تمت برمجته على الكره، لا على الفهم. وحينها، لن ينفعنا الندم، لأن الانفجار قد بدأ منذ لحظة الصمت الأولى.

 

متوسط التقييم
لا يوجد تقييم بعد
شادي عادل الخش
شادي عادل الخشhttps://syria-nahda.org/
باحث وكاتب سوري في الفكر السياسي وفلسفة الدولة مؤسس مشروع النهضة السورية وصاحب تجربة فكرية طويلة في تحليل البنى الاستبدادية وبناء النماذج البديلة للدولة.
spot_imgspot_img