القسم السادس – الباب الثاني
الفصل السابع عشر السيادة الرقمية
من العزلة إلى البنية الذكية
مقدّمة الفصل
في عصر تتحوّل فيه المعرفة إلى سلطة، والمعلومة إلى أداة هيمنة، لم يعد ممكنًا تصور السيادة بمعناها التقليدي دون امتلاك بنى رقمية متكاملة. فكما كانت الأرض والسلاح والعمل هي أركان السيادة في القرون الماضية، باتت اليوم التكنولوجيا الرقمية، وأمن البيانات، والبنية التحتية المعلوماتية، أدوات مركزية في تقرير مصير الشعوب.
وفي الحالة السورية، فإن واحدة من أخطر نتائج الدولة الاستبدادية لم تكن فقط في تغييب السياسة أو قمع الحريات، بل في تعطيل التطور الرقمي، وتحويل المعرفة إلى امتياز سلطوي مغلق، وترك البلاد في عزلة تقنية تُهدد ليس فقط فرص التنمية، بل القدرة على السيادة الوطنية في حدّها الأدنى.
ومن هنا، فإن مشروع النهضة لا يعالج المسألة الرقمية كخيار تنموي أو مسار ترفيهي، بل كركن تأسيسي من أركان السيادة الحديثة، وشرط وجودي للدخول في القرن الحادي والعشرين على أسس صلبة.
أولًا – الإشكالية الرقمية في سوريا: من التخلف إلى الارتهان
كانت البنية الرقمية السورية قبل الثورة واحدة من الأكثر ضعفًا في المنطقة، وقد تجلى ذلك في:
غياب سياسات وطنية لتكنولوجيا المعلومات.
مركزية الدولة الأمنية في إدارة الإنترنت، وتحويله إلى أداة مراقبة وقمع.
حجب المعرفة الرقمية عن القطاعات التعليمية والمجتمعية المستقلة.
تبعية البنية الرقمية (الشبكات، الأجهزة، البرمجيات) لشركات دولية ومزودين أجانب دون ضمانات سيادية.
وبعد الحرب، تفاقمت الإشكالية بانقسام البلاد بين سلطات متنازعة، وتنامي الاعتماد على شبكات أجنبية (تركية، روسية، إيرانية) للتحكم بالمعلومات والبنية التحتية، ما جعل “الفضاء الرقمي السوري” ساحة مفتوحة للاختراق والاستغلال.
ثانيًا – تعريف السيادة الرقمية: المفهوم والامتداد
تُعرّف السيادة الرقمية بأنها:
قدرة الدولة على امتلاك وإدارة وتطوير بنيتها التحتية الرقمية، وتأمين فضائها السيبراني، وتوظيف المعرفة الرقمية في خدمة المجتمع والاقتصاد والحكم، دون تبعية أو اختراق خارجي.
ويتضمن ذلك:
الاستقلال التكنولوجي في البنية الشبكية.
حماية البيانات الوطنية والمجتمعية من التلاعب أو التجسّس.
بناء منظومات تشغيل وتخزين وإدارة معلومات تعتمد على خوادم وخطط سيادية.
ضمان حرية الإنترنت ضمن إطار يحترم الحقوق ولا يخضع للتوظيف الأمني القمعي.
ثالثًا – المبادئ التأسيسية للسيادة الرقمية في مشروع النهضة
المعرفة الرقمية حق وطني عام
لا تُعامل المعلومات كبضاعة أو ملكية للسلطة، بل كحق جماعي يُدار بشفافية وعدالة.
البنية التحتية الرقمية جزء من الأمن القومي
تُعامل مراكز البيانات، الشبكات، منصات التشغيل، والبرمجيات الأساسية كبنى سيادية.
الرقمنة أداة تحرير لا أداة مراقبة
يُعاد تصميم النظام الرقمي بحيث يخدم الإدارة الرشيدة، لا المراقبة السلطوية.
سيادة البيانات فوق الولاءات السياسية
لا يُسمح لأي جهة داخلية أو خارجية بالتحكم بالبيانات الحيوية للسوريين.
الانفتاح العالمي المشروط بالاستقلال
يُبنى تعاون تقني مع العالم على قاعدة الاستفادة لا التبعية، والتكامل لا الاختراق.
رابعًا – الخطط التنفيذية لبناء السيادة الرقمية السورية
بناء شبكة وطنية مستقلة
إنشاء شبكة إنترنت سيادية مستقلة تربط المدن والقرى دون المرور ببنى أجنبية.
تطوير مركز بيانات وطني آمن وذكي، يؤوي قواعد بيانات الدولة والمواطنين.
إصلاح البنية القانونية للفضاء الرقمي
صياغة قوانين رقمية حديثة تُنظّم الخصوصية، الحريات، الجريمة الإلكترونية، والاحتكار الرقمي.
إنشاء هيئة وطنية مستقلة للأمن الرقمي، تخضع للرقابة البرلمانية لا الأمنية.
رقمنة الإدارة والخدمات العامة
إطلاق مشاريع “الحكومة الذكية” لتوفير الخدمات عبر منصات رقمية مؤمنة.
تعزيز الشفافية عبر أنظمة معلومات مفتوحة تُمكّن المواطن من متابعة الأداء الحكومي.
بناء كفاءات وطنية رقمية
إنشاء أكاديمية وطنية لتقنيات المعلومات والحوسبة.
دعم برامج الابتكار التكنولوجي في الجامعات والمدارس، وتوفير منصات مفتوحة لتعليم البرمجة والتقنيات الحديثة.
تأمين الفضاء السيبراني
تطوير منظومة دفاع رقمي وطني قادرة على صدّ الهجمات السيبرانية.
تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال الأمن الرقمي وفق أسس سيادية غير خاضعة للاختراق السياسي.
خامسًا – التحديات المتوقعة
غياب البنية التحتية التقنية في بعض المناطق.
انعدام الثقة المجتمعية بالرقابة الرقمية بعد عقود من القمع.
الخطر الخارجي من الاختراقات الإسرائيلية أو التركية أو الروسية.
نقص الكفاءات المحلية نتيجة الهجرة والدمار التعليمي.
ويُعالج ذلك عبر:
التدرج في بناء المنظومة الرقمية، واعتبارها مشروعًا وطنيًا طويل الأمد.
إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص، بوصفهم شركاء لا تابعين.
تحصين الأمن السيبراني دستوريًا، ودمجه في عقيدة الدفاع الوطني.
خاتمة الفصل
في عالم تحكمه البيانات وتديره الخوارزميات، لا سيادة لدولة معزولة رقمياً أو خاضعة لاختراق معلوماتي.
وفي مشروع النهضة، ليست الرقمنة مجرد تحديث إداري، بل شرط سيادي، وجسر معرفي، وأداة تحرّر وطني.
إن سوريا التي ننهض بها لن تكون دولة بذاكرة ورقية،
بل دولة ببنية رقمية ذكية،
تعرف كيف تحمي مواطنيها،
وكيف تُسخّر التكنولوجيا لا للرقابة، بل للحرية،
ولا للاختراق، بل للاستقلال.