web analytics
القسم السابع – الباب الأول

الفصل الثاني مفهوم الدولة الدستورية السيادية

كإطار للعقد الاجتماعي الجديد

مقدمة الفصل

إذا كان العقد الاجتماعي هو حجر الأساس الأول لبناء مجتمع سياسي سليم، فإن الشكل الذي يأخذه هذا العقد في الواقع الملموس هو الدولة.

ولكن ليست أي دولة — بل دولة دستورية سيادية، تقوم على القانون، وتُجسِّد إرادة المجتمع الحر، وتحمي استقلاله الداخلي والخارجي.

في الحالة السورية، ارتبطت كلمة “الدولة” لعقود بمعاني القمع، والاستبداد، والمصادرة، لا بالسيادة والحرية والقانون.
ولذلك، فإن استعادة فكرة الدولة يجب أن تبدأ أولاً بإعادة تعريفها: لا كأداة سلطة، بل كإطار للعدالة والسيادة والكرامة الجماعية.

أولًا: تعريف الدولة الدستورية السيادية

الدولة

الدولة هي:

كيان اعتباري سياسي يتمتع بالسيادة الكاملة على إقليمه وشعبه.

يمتلك أدوات القوة الشرعية (القانون، الجيش، الأمن) لحماية الحقوق وتنظيم الحياة العامة.

الدستورية

الدستورية تعني:

أن تكون السلطة محدودة بالقانون، لا فوقه.

أن يخضع الحكام والمحكومون جميعاً لقواعد دستورية واضحة، متفق عليها بحرية.

أن تُؤسس الحياة السياسية على احترام الحقوق والحريات، وعلى مبدأ فصل السلطات.

السيادية

السيادة تعني:

أن تكون قرارات الدولة نابعة من إرادة مجتمعها الحر.

أن تحمي الدولة استقلالها ضد الإملاءات الخارجية أو التبعية السياسية أو الاقتصادية.

أن تحتكر الدولة المشروعة حق استخدام القوة، ولكن لخدمة القانون لا لخدمة أشخاص أو فئات.

ثانيًا: لماذا فشل نموذج “الدولة” في سوريا القديمة؟

لأن السلطة تحولت إلى سلطة فوق الدولة: كانت الدولة شكلاً ظاهرياً تخفي تحته استبداد الحزب الواحد والعائلة الحاكمة.

لأن الدستور لم يكن مرجعًا حقيقيًا، بل كان أداة شكلية لتبرير الحكم المطلق.

لأن السيادة لم تكن بيد الشعب، بل صودرت لصالح شبكات داخلية (أجهزة الأمن، عائلات نافذة) وخارجية (رعاة دوليون).

وهكذا، كانت النتيجة كارثية:
دولة شكلية تفتقد إلى الشرعية الداخلية والسيادة الخارجية معًا.

ثالثًا: عناصر بناء الدولة الدستورية السيادية الجديدة في سوريا

  1. إعادة الاعتبار للدستور كمصدر أعلى للشرعية

الدستور يجب أن يُكتب من قبل جمعية تأسيسية منتخبة تمثل المجتمع بأسره.

يجب أن يضع حدودًا دقيقة للسلطة التنفيذية، ويُؤمّن آليات فعّالة لمحاسبتها.

يجب أن يحمي الحقوق الأساسية دون استثناء أو تحايل.

  1. بناء مؤسسات تحترم القانون

كل مؤسسة (الجيش، الشرطة، القضاء، الحكومة) يجب أن تُنشأ وتعمل وفق القانون، لا فوقه.

استقلال القضاء يجب أن يكون مطلقاً وغير قابل للمساومة.

  1. حماية السيادة الوطنية من الداخل والخارج

لا يجوز لأي طرف داخلي أن يعمل كوكيل لدول خارجية أو لخدمة أجنداتها.

القرارات المصيرية يجب أن تُتخذ ضمن مؤسسات دستورية، لا عبر صفقات أو تدخلات.

إعادة بناء الجيش ليكون حاميًا للسيادة والشعب، لا حاميًا للنظام أو الطائفة أو الحزب.

  1. تأسيس ثقافة سياسية جديدة

نشر الوعي بأن الدولة ليست ملكًا للحاكم أو للحزب أو للعائلة، بل هي عقد اجتماعي دائم بين المواطنين.

ترسيخ مبدأ أن نقد السلطة لا يعني خيانة الوطن، بل حماية للوطن والدستور.

رابعًا: تطبيقات عملية على الحالة السورية

معالجة أزمة تعدد مراكز القوى

سوريا اليوم تعاني من تعدد سلطات الأمر الواقع (فصائل محلية، قوى أجنبية، حكومات موازية).

لا يمكن بناء الدولة الدستورية دون دمج هذه القوى ضمن كيان شرعي واحد خاضع للدستور والقانون.

التعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة

لا يجوز اعتبار المناطق الخارجة عن سيطرة المركز معادية بالضرورة.

يجب صياغة حلول تفاوضية تدمج هذه المناطق ضمن الدولة عبر آليات اللامركزية الإدارية، مع الاحتفاظ بوحدة السيادة الوطنية.

تحييد الطائفية السياسية

الدستور الجديد يجب أن يمنع أي تمييز سياسي على أساس الانتماء الديني أو الطائفي أو العرقي.

يجب إعادة تعريف الهوية الوطنية السورية بأنها هوية مواطنة كاملة متساوية، لا هوية انتماءات فرعية.

خامسًا: مقارنة مختصرة مع نماذج دولية

النموذج الألماني بعد الحرب العالمية الثانية

أعيد تأسيس الدولة الألمانية عبر دستور (القانون الأساسي) الذي أرسى فصل السلطات، وحماية الحقوق، وخضوع الحكومة للقانون.

لم يُسمح لأي فئة أو حزب أن يحتكر الدولة أو يحتكر تعريف الوطنية.

النموذج الجنوب أفريقي بعد نهاية التمييز العنصري

تمت صياغة عقد اجتماعي جديد يدمج الجميع تحت هوية وطنية واحدة، ويحمي الأقليات والحقوق دون تقسيم البلاد.

الدولة أصبحت أداة تحقيق العدل الانتقالي وبناء الثقة، لا وسيلة انتقام أو سيطرة.

كلا النموذجين يقدمان دروساً مهمة لسوريا:

لا نهضة دون دولة دستورية تحترم العقد الاجتماعي.

ولا دولة دستورية دون إعادة بناء مفهوم السيادة من جديد.

خاتمة الفصل الثاني

الدولة ليست بناية إسمنتية ولا بيروقراطية رسمية.

الدولة الدستورية السيادية هي الضمان الحقيقي الوحيد لاستمرار المجتمع، لحماية الحقوق، ولمنع عودة الاستبداد والانقسام.

بلا عقد اجتماعي حرّ، لا دستور.
وبلا دستور حيّ، لا دولة.
وبلا دولة دستورية سيادية، لا نهضة سورية ممكنة.

إن مشروع بناء الدولة هو الامتحان الأعمق والأخطر للنهضة السورية:
فإما أن نبنيه على أسس حرة وعادلة وسيادية، أو نعيد إنتاج الكارثة التي أوصلتنا إلى هذا الخراب.