القسم السابع – الباب الثالث
الفصل السادس عشر العدالة الانتقالية
من الانتقام إلى المصالحة المؤسسة
مقدمة
العدالة الانتقالية ليست إجراءً قانونيًا فقط، ولا آلية رمزية لتطييب الخواطر، بل هي حجر الأساس في أي مشروع وطني ينهض من تحت ركام الجريمة والانقسام وفقدان الثقة.
إن الدولة السورية الجديدة، الخارجة من حقبة الاستبداد والانهيار، لا يمكن أن تُبنى دون تفكيك إرث الانتهاك والتمييز والقتل الممنهج، وإعادة تأسيس الثقة بين المواطن والدولة على أساس الحق والإنصاف، وليس التغاضي أو الانتقام.
أولاً: أهداف العدالة الانتقالية في سوريا
كشف الحقيقة: لأن المصالحة لا تُبنى على النسيان أو طمس الوقائع.
محاسبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة: ضمن إطار قانوني لا انتقامي.
إنصاف الضحايا وعائلاتهم: ماديًا، معنويًا، ومجتمعيًا.
إعادة دمج المجتمعات المتأذية والمهمّشة في العقد الوطني الجديد.
ضمان عدم التكرار: عبر إصلاح بنيوي للمؤسسات القضائية والأمنية والإدارية.
ثانياً: المبادئ الحاكمة للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية ليست عدالة انتقامية، بل ترميمية ومؤسسة للمستقبل.
يجب أن تكون جزءًا من خارطة دستورية واضحة، لا أداة بيد السلطة أو تيارات ضاغطة.
لا يمكن التذرّع بـ”الاستقرار” أو “المصالحة” كذريعة لطمس الجرائم أو تعويم الجلادين.
لا مساواة أخلاقية بين الجلاد والضحية، لكن لا يمكن تأسيس دولة عبر الإقصاء المتبادل.
ثالثاً: ركائز العدالة الانتقالية في سوريا
نقترح أن تقوم العدالة الانتقالية على الركائز التالية:
هيئة وطنية مستقلة للحقيقة والعدالة: تُشكّل بقانون، وتتمتع بصلاحيات كاملة لجمع الشهادات، التحقيق في الجرائم، وتقديم التوصيات.
محاكم خاصة ذات طابع انتقالي: لا ترتبط بالمؤسسات القضائية القديمة، وتتقيد بالمعايير الدولية.
برنامج وطني لجبر الضرر: يتضمن التعويضات، الرعاية النفسية، وإعادة الاعتبار الرمزي.
مراكز توثيق وذاكرة وطنية: تحفظ الرواية السورية من التزوير أو الطمس، وتُرسّخ ثقافة “اللا إفلات من العقاب”.
خطط إصلاحية للمؤسسات: تطهير القطاعات الأمنية والقضائية من المتورطين بالانتهاكات.
رابعاً: تحديات محتملة يجب الاستعداد لها
رفض بعض القوى الفاعلة الانخراط في المسار القضائي.
محاولات الالتفاف على المصارحة بذرائع سياسية أو طائفية.
تداخل النفوذ الدولي في ملفات العدالة مما قد يُفقدها استقلالها.
خطر تأجيج الأحقاد إن لم تُدار العملية بوعي قانوني–أخلاقي شامل.
خامساً: استراتيجيات التطبيق العملي
إدراج العدالة الانتقالية كبند تأسيسي في الدستور الجديد.
بناء شراكة بين المؤسسات القضائية الجديدة والمجتمع المدني.
توثيق الجرائم والانتهاكات ضمن قواعد بيانات متاحة لاحقًا للعدالة الدولية إذا لزم.
إشراك السوريين في الخارج بآليات الشهادة والمشاركة الرمزية والتوثيق.
تطوير خطاب إعلامي مسؤول يرافق العملية دون تحريض أو شيطنة.
سادساً: العدالة الانتقالية كرافعة لبناء الدولة
إن العدالة الانتقالية هي أداة هندسة للمستقبل، لا مجرد تصفية حسابات مع الماضي.
وحين تُبنى على أسس واضحة، محايدة، شفافة، ومؤسسية، يمكن أن تتحول إلى:
أساس لشرعية النظام الجديد.
بوابة حقيقية للسلام الأهلي.
إغلاق نهائي لباب الانتقام، وفتح باب المواطنة والكرامة للجميع.