web analytics
القسم السابع – الباب الخامس

الفصل الخامس والعشرون الدين والدولة

من الهيمنة الرمزية إلى الحياد المؤسساتي

مقدّمة الفصل:

في مجتمعات مثل سوريا، حيث تتداخل الهويات الدينية والمذهبية مع التاريخ السياسي والاجتماعي، فإن العلاقة بين الدين والدولة لم تكن يومًا مسألة تنظيم إداري فحسب، بل كانت ركيزة عميقة في تشكيل البنى السلطوية، وإعادة إنتاج الشرعية، وبسط الهيمنة الرمزية.

لقد عانى السوريون لعقود من تسييس الدين وتديين السياسة، ودفعت البلاد ثمناً باهظًا لتغوّل المؤسسة الدينية الرسمية حينًا، وتوحّش التيارات الراديكالية حينًا آخر.

لهذا، فإن إعادة هندسة العلاقة بين الدين والدولة في سوريا المستقبل ليست ترفًا فلسفيًا، بل ضرورة مؤسساتية وسيادية، هدفها منع توظيف المقدّس في الصراع السياسي، وضمان حرية الاعتقاد دون تحويل الدولة إلى حلبة صراع هوياتي.

أولاً: التشخيص المؤسسي – كيف استخدم النظام الدين كأداة حكم؟

تمّت إخضاع المؤسسة الدينية الرسمية للسلطة التنفيذية، وتحويلها إلى ذراع شرعية للنظام.

فُرضت وصاية أمنية على كل أنشطة الإفتاء، والخطاب الديني، والتعليم الشرعي.

فُرض خطاب ديني موالٍ، يكرّس مفهوم “ولي الأمر” ويحرم المساءلة.

تم توظيف الرموز الدينية في الخطاب السياسي والإعلامي لصناعة طاعة مطلقة للحاكم.

تم اختزال الدين في طائفة الأغلبية مقابل تهميش المذاهب والأقليات الدينية الأخرى.

ترك النظام الباب مفتوحًا لصعود تيارات متشددة في لحظات معينة، لتبرير القمع الأمني وإعادة إنتاج الخوف.

ثانيًا: النتائج الكارثية لغياب الحياد المؤسساتي

انهيار ثقة الناس بالمؤسسة الدينية الرسمية بوصفها أداة بيد النظام.

صعود الخطابات المتطرفة كبديل شعبي لمشهد ديني مشوّه.

استخدام الدين كسلاح في يد جماعات العنف المسلح، ما ساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي.

تشكُّل بيئات دينية معزولة، متقوقعة، متطرفة، ترى في الآخر خطرًا وجوديًا.

تشويه صورة الدين نفسه بوصفه أداة صراع لا مجال وعي أو إلهام أخلاقي.

ثالثًا: المبادئ التي يجب أن تحكم العلاقة بين الدين والدولة

حياد الدولة التام تجاه الأديان والمذاهب: لا سلطة لها على الدين، ولا للدين سلطة عليها.

حرية الاعتقاد والممارسة الدينية مكفولة بالكامل، ضمن القانون العام.

لا مرجعية دينية للدولة، ولا يُشترط أي انتماء ديني لتولي أي منصب عام.

عدم تمويل الخطاب الديني الرسمي من خزينة الدولة لضمان الاستقلال والشفافية.

إلغاء القوانين والأنظمة التي تميّز بين المواطنين على أساس الدين أو الطائفة أو الجنس.

ضمان استقلالية الفضاء الديني عن أجهزة الدولة، مع إخضاعه فقط للقانون المدني العام.

رابعًا: المهام التنفيذية لإعادة تنظيم العلاقة بين الدين والدولة

حلّ المجالس الدينية المرتبطة مباشرة بالسلطة التنفيذية، واستبدالها بهيئات منتخبة داخل الطوائف بتنظيم قانوني واضح.

إعادة هيكلة وزارة الأوقاف لتتحول من جهة دينية توجيهية إلى جهة تنظيمية إدارية فقط، تُشرف على إدارة الأملاك الوقفية فقط.

تحويل الإفتاء إلى منصب مدني فخري غير مُلزِم تشريعيًا، ولا يتمتع بأي صفة تنفيذية.

إلغاء شرط الدين في الأحوال الشخصية واستبداله بقانون مدني اختياري لجميع السوريين، مع إبقاء حرية التقاضي الديني لمن يختار ذلك طوعًا.

مراجعة مناهج التعليم الديني في المدارس الرسمية والخاصة، لحذف كل ما يعزز التمييز أو التحريض، واستبداله بتعليم قيمي–أخلاقي مشترك.

منع التمويل الخارجي لأي جهة دينية أو مؤسسة دعوية، وضبط مصادر الدعم الداخلي تحت رقابة محاسبية صارمة.

خامسًا: استراتيجية مواجهة التطرّف الديني

إنشاء هيئة وطنية عليا مستقلة لمناهضة التطرف، تضم علماء، وأمنيين، ومفكرين، ومجتمع مدني.

إدراج برامج توعية دينية معتدلة في الإعلام الرسمي والمستقل.

دعم مبادرات مجتمعية لتحصين الفضاء الديني المحلي من الانغلاق والتعصب.

تشجيع الاجتهاد الديني المدني المستقل، ومنح الحريات الدينية تحت إطار القانون دون قمع أو مصادرة.

خاتمة الفصل:

إن العلاقة بين الدين والدولة هي واحدة من أعقد قضايا إعادة بناء الدولة السورية.

لكنها، في الوقت ذاته، من أكثر الملفات التي إن حُسمت على أسس مدنية عادلة، يمكن أن تؤسس لمرحلة سياسية واجتماعية صحية، تحفظ التعدّد، وتحمي الحريات، وتُخرج الدين من ساحة الصراع السياسي إلى رحابه الطبيعية كمجال إلهام روحي وأخلاقي.

ولذلك، لا يمكن الحديث عن دولة سيادية أو مدنية أو جامعة، دون تفكيك بنية التداخل السلطوي–الديني، ووضع أسس قانونية ومؤسساتية للحياد الكامل… حياد لا يُقصي الدين، بل يُخرجه من يد السلطة ويُعيده إلى مكانه الحقيقي: الضمير، الإيمان، والحرية.