web analytics
القسم الثامن – الباب الأول

الفصل السادس تنظيم العلاقات بين السلطات

آليات الضبط والتوازن

مقدّمة تمهيدية:

إن الدولة الحديثة لا تُبنى فقط بوجود سلطات ثلاث، بل بتنظيم العلاقة بينها على نحو يضمن التعاون والتكامل دون خضوع، ويحقق التوازن دون تعطيل. ومن هنا نشأت في الفكر الدستوري الحديث مفاهيم مثل “فصل السلطات” (مونتسكيو)، ثم تطورت إلى “التفاعل المتوازن”، و”الرقابة المتبادلة”، و”المساءلة العابرة للسلطات”، وهي مفاهيم لا تهدف إلى إضعاف السلطة بل إلى منع تمركزها في يد واحدة، أو شلّ حركتها عبر فوضى التشابك.

في السياق السوري، حيث كانت السلطات مجرّد واجهات شكلية ضمن بنية تسلطية أحادية مركزها الأمن، فإن أولى الخطوات نحو تأسيس دولة سيادية حقيقية، هي ضبط الحدود والوظائف والرقابة بين السلطات الثلاث، بما يحمي:

الدستور من التعطيل؛

التشريع من الإلحاق؛

القضاء من التسييس؛

التنفيذ من الانفلات أو الجمود.

أولًا: من الفصل النظري إلى التوازن العملي – المبادئ الحاكمة للعلاقة بين السلطات

الفصل الوظيفي لا الانعزال المؤسساتي: كل سلطة لها اختصاصها المحدد، لكن ضمن شبكة تفاعل رقابي منظّم.

الرقابة المتبادلة لا الهرمية: لا تعلو سلطة على أخرى، بل تخضع جميعها لرقابة مزدوجة: دستورية وشعبية.

التوازن الديناميكي لا الجمود الكلي: تُمنح كل سلطة أدوات دفاع رقابية، لكنها لا تتحوّل إلى عائق يحول دون أداء غيرها.

المساءلة المتقاطعة لا الحصانة المتبادلة: لا تُمنح أي سلطة حصانة نهائية، بل يُفتح المجال لمحاسبتها داخل إطار قانوني–دستوري محكَم.

حماية الاستقلال لا تفكيك الدولة: تُصان كل سلطة من التدخّل، لكن دون أن تتحول إلى جزيرة منعزلة، فالدولة الواحدة تتطلب وحدة تنسيق لا وحدة سيطرة.

ثانيًا: أدوات التوازن بين السلطة التنفيذية والتشريعية

للمجلس التشريعي:

حق منح أو حجب الثقة عن الحكومة؛

استجواب الوزراء، ومساءلة رئيس الحكومة؛

رفض أو تعديل المشاريع القانونية المقدّمة من السلطة التنفيذية؛

تشكيل لجان تحقيق في أي تجاوز حكومي.

وللسلطة التنفيذية:

اقتراح مشاريع قوانين؛

الاعتراض المؤقت على بعض القوانين مع مبررات قانونية؛

طلب جلسات استثنائية للمجلس لعرض سياسات عاجلة؛

الدعوة لانتخابات مبكرة بشروط دستورية واضحة.

الآلية الضابطة:

المحكمة الدستورية العليا تفصل في أي نزاع بين السلطتين؛

النشر الإلزامي للقرارات المتبادلة بين الطرفين؛

لجنة مشتركة للتنسيق بين الحكومة والبرلمان تعمل على التوافق المسبق في القضايا التشريعية الكبرى.

ثالثًا: العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية

استقلال القضاء الكامل عن التعيين، الرقابة، أو التوجيه من أي جهة تنفيذية؛

يُمنع على أي مسؤول تنفيذي التدخل في مسار دعوى قضائية، أو توجيه نتائجها؛

تخضع السلطة التنفيذية لأحكام القضاء الإداري الكامل (الطعن – وقف القرارات – التعويض)؛

يتم إلزام الإدارة بنشر مبررات قراراتها الكبرى تحت طائلة الإلغاء القضائي؛

القضاة لا يُعيّنون ولا يُعزلون من قبل رئيس الدولة أو الحكومة، بل عبر مجلس القضاء الأعلى فقط.

رابعًا: العلاقة بين السلطتين التشريعية والقضائية

للمجلس التشريعي صلاحية استدعاء تقارير الأداء القضائي السنوي دون التدخل في الأحكام؛

لا يجوز للبرلمان إعادة تفسير الدستور، بل يُحال ذلك للمحكمة الدستورية العليا؛

يمكن للبرلمان تعديل القوانين القضائية، لكن دون التأثير على استقلال السلطة القضائية ككل؛

يمنع على البرلمان سنّ قوانين تطال بنية المحاكم أو القضاة دون تصويتٍ نوعي وثنائي القراءة.

خامسًا: دور المحكمة الدستورية العليا كضامن لتوازن السلطات

تفصل في النزاعات المؤسسية بين أي سلطتين؛

تُراقب عدم تجاوز أي سلطة لاختصاصاتها الدستورية؛

تُعلن بطلان أي قانون أو مرسوم يتعارض مع مبدأ التوازن الدستوري؛

تمثل الحارس الأعلى لمنظومة الضبط المؤسسي، دون تدخل في تفاصيل عمل كل سلطة.

سادسًا: الخطة الانتقالية لضمان التوازن في المرحلة الأولى من بناء الدولة

وضع دليل وظيفي دستوري مؤقت يحدّد بوضوح صلاحيات كل سلطة؛

تفعيل هيئة الرقابة الدستورية المؤقتة (قبل تشكيل المحكمة العليا) للفصل السريع في أي نزاع مؤسسي؛

تشكيل لجنة تنسيق سيادي مشترك بين السلطات الثلاث، بصلاحيات استشارية لا إلزامية؛

نشر كل السياسات الكبرى على منصة رقمية سيادية لتكريس الشفافية أمام المواطنين؛

التحكيم الوطني كأداة لحل أي انسداد وظيفي مؤقت بين السلطات في المرحلة الانتقالية.

 خاتمة الفصل:

إن بناء السلطات الثلاث في الدولة الجديدة، دون تحديد العلاقة المؤسسية بينها، لا يفضي إلى توازن، بل إلى صراع أو شلل. ولهذا فإن هذا الفصل يُشكّل تتويجًا تنظيميًا لبنية الدولة السيادية، حيث لا سلطة تعلو على القانون، ولا مؤسسة تنفرد بالحكم، بل دولة مبنية على التوازن، الرقابة، وتوزيع القوة داخل حدود الوظيفة العامة. وباكتمال هذا الباب، نكون قد أنهينا تأسيس البنية المؤسسية العليا للسلطة، وننتقل إلى الباب الثاني، الذي يتناول منظومات العدالة الانتقالية والحماية الحقوقية بوصفها ضمانة للمصالحة والسيادة القانونية والكرامة الإنسانية.