القسم الثامن – الباب الثاني
الفصل السابع تفعيل العدالة الانتقالية
من التوافق السياسي إلى المسارات القانونية
مقدّمة تمهيدية:
العدالة الانتقالية ليست لحظة صدور قانون، ولا مجرد إنشاء هيئة لتلقي الشكاوى، بل هي منظومة عملية مركبة تهدف إلى معالجة الماضي، وتحقيق الاعتراف، وضمان الإنصاف، وحماية المستقبل من إعادة إنتاج الظلم ذاته.
وفي الحالة السورية، التي تراكمت فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من مجازر ومعتقلات إلى تهجير قسري وتدمير ممنهج، فإن أي مشروع للنهضة لا يمكن أن يستقيم دون خطة تنفيذية للعدالة الانتقالية، تُخرج العدالة من حقل الشعارات إلى مجال الإنفاذ السيادي.
إن هدف هذا الفصل هو تقديم تصور تطبيقي واضح لتفعيل العدالة الانتقالية، انطلاقًا من التوافق السياسي المؤسِّس، ووصولًا إلى بناء هياكل تنفيذية وقضائية تضمن العدالة دون الانتقام، وتحقق الإنصاف دون الفوضى.
أولًا: العدالة الانتقالية كشرط سيادي لا كخيار أخلاقي
في دولة خارجة من الاستبداد والانقسام والحرب، تكون العدالة الانتقالية ركنًا تأسيسيًا من شرعية النظام الجديد.
لا يمكن أن تقوم سلطة سيادية دون أن تفتح ملفات الماضي وتُخضعها للمراجعة والمحاسبة.
العدالة هنا ليست فقط إنصافًا للضحايا، بل تقييدٌ مستقبلي لسلطة الدولة، وضمانة دستورية لمنع التكرار.
ولهذا، فإن العدالة الانتقالية تُعد جزءًا من هندسة الدولة الجديدة، لا مجرد ملحق قانوني بها.
ثانيًا: مراحل التنفيذ – من التوافق إلى التدرج المؤسسي
- مرحلة التوافق السيادي على المبادئ العليا:
يجب أن تنطلق العدالة الانتقالية من وثيقة تأسيسية جامعة تُقرّ بالمبادئ التالية:
الاعتراف الرسمي بالانتهاكات والجرائم؛
عدم سقوط الجرائم الجسيمة بالتقادم؛
حق الضحية في الحقيقة، والإنصاف، والتعويض، وعدم التكرار؛
الفصل الصارم بين العدالة الانتقالية والانتقام السياسي؛
التدرج المرحلي وفق أولوية الجرائم وسعة الانكشاف المؤسسي.
- مرحلة التأسيس المؤسسي:
إنشاء هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية، بصلاحيات سيادية واضحة، وتكوين متعدد التمثيل:
قضاة مختصون في القانون الجنائي والإنساني؛
حقوقيون محليون ودوليون؛
ممثلو ضحايا وجمعيات مدنية؛
خبراء في النزاع وإعادة الإدماج المجتمعي.
هذه الهيئة تُناط بها المهام التالية:
تجميع الأدلة والشهادات؛
تصنيف الجرائم حسب طبيعتها وحدّتها؛
تنظيم آليات الجبر والتعويض؛
التنسيق مع القضاء الوطني والدولي عند الحاجة؛
اقتراح السياسات العامة المتعلقة بالذاكرة والاعتراف المجتمعي.
- مرحلة التقاضي الانتقالي:
تأسيس محاكم خاصة بالعدالة الانتقالية تعمل وفق إجراءات جنائية استثنائية ولكن عادلة، تراعي:
ضمانات المحاكمة العادلة؛
التدرج في أولوية الملاحقة (القيادات – المنفّذون – الشركاء السياسيون)؛
اعتماد مقاربة عدم الإفلات من العقاب دون تدمير المؤسسات الضرورية للبناء؛
الموازنة بين المحاسبة والعفو المشروط حيث تقتضي الضرورة المجتمعية.
ثالثًا: مسارات العدالة الانتقالية – من الأدوات إلى التفعيل
- المساءلة والمحاسبة:
محاسبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة (جرائم ضد الإنسانية، التعذيب، الإبادة، التهجير القسري)؛
إخضاع المسؤولين السابقين إلى مسار قانوني يتدرج بين:
الإقالة الفورية؛
المنع المؤقت من الوظيفة العامة؛
التحقيق القضائي؛
المحاكمة العلنية أمام محاكم متخصصة.
- الاعتراف والحقيقة:
إطلاق برنامج وطني للاعتراف بالضحايا يشمل:
نشر التقارير الرسمية عن المفقودين والمعتقلين؛
فتح الأرشيف الأمني والسياسي أمام لجنة العدالة؛
توثيق الجرائم المرتكبة من جميع الأطراف؛
إقامة أيام وطنية للذاكرة والتكريم.
- جبر الضرر والتعويض:
إعداد نظام تعويض متعدد المستويات يشمل:
تعويضًا ماديًا مباشرًا للمعتقلين وذوي الضحايا؛
إعادة الاعتبار القانوني والمجتمعي للضحايا؛
دعم نفسي واجتماعي طويل الأمد؛
تقديم رعاية صحية مجانية للمصابين جراء الانتهاكات.
- الإصلاح المؤسسي:
إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعدلية والإدارية التي تورّطت في الانتهاكات؛
تطهير الأجهزة الحساسة من العناصر المتورطة؛
فرض معايير جديدة للتوظيف تستبعد أي سجل في الجرائم أو الانتهاكات.
- عدم التكرار:
تضمين العدالة الانتقالية في المناهج التعليمية؛
سنّ قوانين تحظر العودة إلى نماذج الاعتقال السياسي أو القمع المؤسسي؛
تكريس الرقابة المجتمعية والدستورية على أجهزة الدولة؛
تعزيز دور الإعلام المستقل والمجتمع المدني في الرصد والضغط الوقائي.
رابعًا: خطة التدرج التنفيذي – بين الواقعية والسيادة
تنفيذ العدالة الانتقالية لا يتم دفعة واحدة، بل عبر مراحل متزامنة ومترابطة:
- مرحلة التأسيس والاعتراف الرسمي؛
- مرحلة التقاضي والإفصاح؛
- مرحلة الجبر والتعويض؛
- مرحلة الإصلاح والحماية من التكرار.
يجب أن يُربط كل مسار بتقييم مرحلي مستقل يصدر عن هيئة مراجعة عدلية مستقلة؛
يُدار الملف عبر منصّة رقمية شفافة تُتيح للمواطنين متابعة التنفيذ والتقدم بالشكاوى والبيانات؛
يُخصص في الموازنة العامة صندوق سيادي خاص بالعدالة الانتقالية، لا يخضع لمساومات سياسية أو أولويات وزارية.
خاتمة الفصل:
إن العدالة الانتقالية، حين تُفعّل كجزء من هندسة الدولة لا كخدمة طارئة، تصبح هي الضمان الحقيقي لأي نهضة، لأنها تربط بين الإنصاف والسلطة، بين الحقيقة والسيادة، بين الماضي والمستقبل. وفي سوريا، التي تجرّعت الخوف والإنكار طويلًا، لا خلاص دون الاعتراف، ولا استقرار دون محاسبة.
ومن هنا، ننتقل إلى الخطوة التالية: تأسيس المنظومة المؤسسية لحماية الحقوق والحريات، بدءًا من المجلس الوطني لحماية الحقوق، وصولًا إلى المفوضيات العليا والرقابة المجتمعية.