القسم التاسع – الباب الأول
الفصل الأول الهوية الوطنية في الدولة السيادية
من التفكك الرمزي إلى وحدة الانتماء
مقدمة تأسيسية: لماذا تبدأ النهضة بالهوية؟
في كل مشروع سياسي عميق، لا يُقاس النجاح بمدى السيطرة على الأرض أو احتكار القرار، بل بمدى قدرة هذا المشروع على إعادة تعريف الإنسان في علاقته بذاته، ومجتمعه، ودولته. وفي قلب هذه العلاقة تقع الهوية الوطنية، لا كرمز عاطفي أو شعار تعبوي، بل كبنية معنوية–سياسية–تاريخية تحدد جوهر العقد بين الفرد والدولة، بين المواطن والوطن، بين الانتماء والمصير.
إن الهوية الوطنية، في مشروع النهضة السورية، لا تُختزل في رموز أو أعلام أو نشيد رسمي، بل تُفهم بوصفها البنية السيادية الجامعة التي تمنح الانتماء معناها، والكرامة مضمونها، والمواطنة قاعدتها. إنها الإطار الذي يوحّد المختلفين، لا بإلغاء اختلافهم، بل بجعلهم شركاء في معنى أكبر يتجاوز الطوائف والإثنيات والمناطق والمذاهب.
لكن الهوية لا تولد من الشعارات. إنها تتكوّن من التجربة التاريخية، ومن الإحساس المتراكم بالانتماء، ومن الممارسة اليومية للكرامة داخل دولة تُعبّر عن ناسها، وتُجسّد إرادتهم، وتحمي اختلافهم.
ولأن سوريا الحديثة فشلت في بناء هذه الهوية، فإن الانهيار لم يكن سياسيًا فقط، بل رمزيًا ووجوديًا. لذلك، فإن أي نهضة لا تبدأ من استعادة هذه الهوية بوصفها جوهرًا سياديًا جديدًا، ستكون محاولة ناقصة، ومهددة بالتفكك مع أول أزمة.
أولًا: تفكيك معضلة الهوية في التجربة السورية – من الاستقلال إلى الانفجار
- الهوية المفروضة بدل الهوية المتكوّنة
منذ نشوء الدولة السورية الحديثة، لم يُسمح للهوية الوطنية أن تتكوّن عضويًا من تنوّع المجتمع وتاريخه وتجاربه. بل تم فرض سرديات رسمية، تغيّب بعض المكونات، وتعظّم أخرى، وتُجسّد الانتماء من خلال الولاء للحكم، لا من خلال المشاركة في صياغة الوطن.
ففي مرحلة الاستقلال، غلب الطابع المديني-العروبي النخبوي على الهوية الرسمية، ما همّش مكونات الأطراف، والريف، والقوميات غير العربية، والطبقات الشعبية. ثم جاء حزب البعث، فأعاد تشكيل الهوية بوصفها هوية قومية–أيديولوجية، قائمة على مركزية العروبة الصدامية، والإسلام الشعاري، والعداء للأعداء الخارجيين، في مقابل تجاهل التكوين الحقيقي للناس داخل سوريا.
- تسييس الهويات الفرعية وتفريغ الوطنية
لم يكتفِ النظام بالتمييز الثقافي، بل قام بتوظيف الهوية الطائفية والمناطقية بوصفها أداة حكم، فحوّل الانتماء إلى آلية للنجاة، والاختلاف إلى مصدر للريبة. وهكذا، لم تعد الوطنية شعورًا مشتركًا، بل غطاء هشًا لهويات متصارعة في الباطن، تُدار بقمع الخلاف أو شرعنته ضمن توازنات استبدادية.
وبينما كانت الدولة تدّعي تمثيل الجميع، كانت في الحقيقة تبني سلطتها على الانقسام، وتُنتج هوية سياسية فوقية تحجب التفكك الفعلي في القاعدة المجتمعية.
- قمع التعدد بدل إدماجه
سعت السلطة إلى صهر المجتمع في نموذج واحد، لا يقبل بالتعدد الثقافي واللغوي والديني. وتم اعتبار أي مطالبة بالاعتراف الثقافي (الكردي مثلًا، أو الآشوري، أو الأمازيغي في مناطق معينة) بمثابة تهديد للوحدة الوطنية. لكن الواقع أن نفي التعدد هو ما أدى إلى تفكك الهوية الوطنية، لا الاعتراف به.
فالدولة التي لا ترى كل أبنائها، لا يمكن أن تكون وطنًا مشتركًا، بل تصبح مجرد سلطة فوقهم.
- رمزية بلا مضمون
حتى الرموز الوطنية الرسمية – كالعَلَم، والنشيد، والاحتفالات – تم استخدامها لتكريس حكم الفرد أو الحزب، لا لترسيخ هوية الشعب. وتحول مفهوم “الوطن” إلى شعار يخفي تحته نظامًا يعتبر نفسه الوطن ذاته، فيلغي إمكانية قيام عقد حقيقي بين الناس وبين الدولة.
ثانيًا: نحو تعريف تأسيسي جديد للهوية في مشروع النهضة السورية
- الهوية كسيادة معنوية
في مشروع النهضة، لا تنفصل الهوية عن السيادة. فالهوية الوطنية ليست فقط شعورًا بالانتماء، بل هي ثمرة السيادة: حين تكون الدولة مستقلة في قرارها، عادلة في إدارتها، راعية لمواطنيها، يصبح الانتماء فعلًا حرًّا، لا انحناء قسريًا.
- هوية تعددية تشاركية
لا يمكن بناء وطن دون الاعتراف الكامل بتعدديته. الهوية الوطنية التي نقترحها ليست إلغاءً للاختلافات، بل إطارًا جامعًا يحتضنها، حيث يصبح العربي والكردي والسرياني والآشوري والتركماني شركاء في تعريف الوطن، لا ضيوفًا فيه. وكذلك المسلم والمسيحي والعلوي والدرزي والشيعي واليزيدي وغيرهم.
- هوية مواطنية لا تبعية
الهوية في الدولة الجديدة لا تُمنح بناءً على الطاعة، بل تُكتسب من خلال الشراكة. فكل من يؤمن بهذا العقد الاجتماعي، ويشارك في بناء الوطن، هو جزء من الهوية الوطنية، دون الحاجة لإثبات ولاء لأي سلطة أو زعيم أو طائفة.
- الهوية كحماية لا كمطابقة
لا نسعى لصناعة هوية موحّدة تختزل الجميع، بل نؤمن بـالهوية الجامعة الحامية، التي تضمن حق الجميع في أن يكونوا ما هم عليه، دون خوف أو تمييز، ضمن إطار جامع يحمي الكل ويمنع التفكك.
ثالثًا: السياسات التنفيذية لتفعيل الهوية الوطنية الجامعة
- بناء هيئة وطنية عليا للهوية السورية
تُعنى بإعادة تعريف الهوية الوطنية ضمن مبدأ السيادة والاعتراف الكامل بالتعدد.
تضم خبراء من كل المكونات، وتعمل على مراجعة السياسات الثقافية والتعليمية والإعلامية.
- إصلاح شامل للمناهج التربوية
إعادة كتابة التاريخ السوري على أسس شاملة تعددية.
تدريس مبادئ المواطنة والاعتراف بالآخر منذ الصفوف الأولى.
إدماج الفنون والتاريخ الثقافي للمكونات السورية في المناهج.
- إطلاق مشروع ثقافي–رمزي لإعادة صياغة الرموز الوطنية
إعادة تعريف يوم الاستقلال، عيد الجلاء، ذكرى الثورة، كأيام جامعة لا احتكار فيها لرواية واحدة.
تصميم نشيد وطني جديد يعكس التنوع والانتماء لا التمجيد الشخصي.
تمكين الفنون، المسرح، والأدب الوطني كوسائل لتجذير الهوية المشتركة.
- حماية التعدد عبر التشريعات
دسترة مبدأ التعدد الثقافي واللغوي.
منع سن أي قانون يُقصي أي مكون على أساس انتمائه الإثني أو الديني.
دعم الإعلام المحلي بلغات المكونات السورية.
- يوم سنوي باسم “الهوية السورية الجامعة“
يكون مناسبة للاحتفال بالوحدة ضمن التنوع.
يشمل فعاليات في كل المحافظات تعكس التنوع الثقافي السوري كقوة لا كعبء.
خاتمة:
ليست الهوية الوطنية وصفة جاهزة، ولا خطابًا رسميًا، بل هي نتاج علاقة بين دولة تحترم ناسها، وناس يشعرون أن هذه الدولة تُعبّر عنهم.
وفي سوريا، آن أوان إنهاء عصر الهوية المصادرة، والبدء ببناء هوية سيادية جديدة:
هوية تُصاغ بالاعتراف، لا بالنفي؛
بالمشاركة، لا بالهيمنة؛
بالعدالة، لا بالاستثناء؛
وبالسيادة، لا بالتبعية.
فمن هذه الهوية تبدأ النهضة، وعلى أرضها وحدها يمكن أن تُبنى دولة الإنسان السوري الحر.