web analytics
القسم التاسع – الباب الثالث

الفصل التاسع رؤية الدولة للإعمار الوطني

من الدمار إلى الإحياء الاستراتيجي

مقدمة تأسيسية: الإعمار كفعل سيادي لا كصفقة

في البلدان الخارجة من الحرب، غالبًا ما يتحوّل “الإعمار” إلى مزاد دولي، أو فرصة نهب، أو وسيلة لإعادة إنتاج مراكز السلطة القديمة.

أما في مشروع النهضة، فالإعمار ليس نهاية المسار، بل بداية مشروع الدولة الجديدة.
وهو ليس مجرد استعادة لما كان، بل تأسيس لما يجب أن يكون.

فالإعمار، كما نراه، ليس بناء حجر، بل إعادة تشكيل الوعي، والمكان، والاقتصاد، والعدالة.
هو استعادة للسيادة من بين الأنقاض، وبناء للعقد الاجتماعي من بين الخرائط المهدّمة، وطرحٌ لسؤال:
لمن تُبنى البلاد؟ ولماذا؟ وعلى أي أساس؟

ولذلك، فإن رؤية مشروع النهضة للإعمار تختلف جذريًا عن المقاربات الدولية التقليدية التي تحصره في البنية التحتية أو المؤشرات المالية.

بل نراه على ثلاثة مستويات:

إعمار مادي: إعادة بناء المنازل، المدارس، المستشفيات، البنى التحتية.

إعمار بنيوي: إعادة هيكلة النظام الاقتصادي، والإداري، والخدماتي بطريقة عادلة وشاملة.

إعمار رمزي–اجتماعي: إعادة الثقة، والذاكرة، والانتماء، وتوزيع الموارد على قاعدة الحق لا الولاء.

أولًا: تشريح النموذج الذي يجب تجاوزه

  1. إعمار يُعيد إنتاج النظام

في التجارب التاريخية القريبة، كثيرًا ما تحوّلت خطط الإعمار إلى وسيلة لعودة النخب الفاسدة إلى السيطرة عبر أدوات مالية واستثمارية جديدة.

وتحوّل اللاجئون والضحايا إلى عوائق أمام المشاريع العقارية، لا إلى شركاء في التخطيط.

  1. إعمار مفروض من الخارج

عبر ربط التمويل الدولي بشروط سياسية أو اقتصادية تفقد الدولة قرارها السيادي،
أو عبر توكيل مؤسسات دولية بإدارة القطاعات الحيوية، أو رهن الموارد السيادية بضمانات للدائنين.

  1. إعمار غير عادل

بمعنى أن تُعاد إعمار مناطق دون غيرها، وتُعطى الأولوية للمراكز على حساب الأطراف، أو للموالين على حساب المهمشين، أو لأصحاب النفوذ على حساب الضحايا.

ثانيًا: مبادئ رؤية النهضة للإعمار الوطني

  1. الإعمار فعل سيادة لا صفقة

لا يجوز أن يُبنى الوطن بشروط من هدّمه، ولا أن يُرهن لمؤسسات دولية تقايض الدعم بالوصاية.
الإعمار، في مشروع النهضة، هو أداة استعادة للسيادة، لا وسيلة تخفيف مشروط.

  1. الإعمار أولوية اجتماعية لا هندسية

لا يُقاس النجاح بعدد الأبنية، بل بمن عاد إليها، وبالعدالة التي أعادت الناس إليها.

يجب أن تكون البداية من حيث كان الهدم أعمق: في المجتمعات الأكثر تهميشًا، في المناطق المنكوبة، في الأحياء التي دُمّرت عمدًا.

  1. الإعمار العادل يبدأ من الضحايا

العدالة في الإعمار لا تعني فقط التوزيع الجغرافي المتوازن، بل تعني أولوية الضحايا في السكن، والمشاركة، والعمل، والتخطيط، والرقابة.

  1. الإعمار شراكة بين الدولة والمجتمع

لا تقوم الدولة بكل شيء، لكن لا تنسحب أيضًا.
يُبنى نموذج تشاركي بين الدولة، والبلديات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والمغتربين، دون احتكار أو فوضى.

ثالثًا: السياسات التنفيذية للإعمار السيادي العادل

  1. تأسيس “الهيئة الوطنية العليا للإعمار والتحول السيادي

تتبع للمجلس الوطني، لا للسلطة التنفيذية، وتتمتع باستقلالية كاملة.

تضم مهندسين، اقتصاديين، ممثلين عن البلديات، ضحايا، مغتربين، وفاعلين اجتماعيين.

وظيفتها:

التخطيط الاستراتيجي للإعمار

الرقابة على التمويل

التنسيق مع الشركاء الدوليين ضمن قواعد السيادة

ضمان أولوية العدالة في التوزيع

  1. إصدار “قانون العدالة في الإعمار والتوزيع العادل للموارد

يُجرّم التمييز في مشاريع الإعمار على أساس سياسي أو طائفي أو مناطقي

يُنظم أولويات الاستثمار في المناطق المنكوبة

يضع معايير ملزمة للمناقصات، ويحظر إعادة الثروة لمراكز الفساد القديمة

ينص على وجوب مشاركة المجالس المحلية والمجتمعات في تحديد الأولويات

  1. خطة وطنية للتنمية اللامركزية في الإعمار

لا مركزية التخطيط والتنفيذ

إعطاء البلديات والمجالس المنتخبة الصلاحيات لتصميم وإدارة مشاريعها

تحويل الإعمار إلى وسيلة لتعزيز الحكم المحلي وتعميق المشاركة

  1. صندوق السيادة الوطنية للإعمار

يُموّل من:

الموارد الوطنية

مساهمات المغتربين

الشراكات غير المشروطة مع الدول الصديقة

المنح الدولية التي لا تمسّ السيادة

يُدار بشفافية تامة

يُمنح الضحايا والمناطق الأكثر تضررًا أولوية التمويل

  1. المساءلة والشفافية كمبدأ سيادي

نشر كل المشاريع، والموازنات، والتمويلات، والمناقصات على منصات عامة

السماح للصحافة والمجتمع المدني بمراقبة التنفيذ

محاسبة الجهات المتورطة في أي شكل من أشكال الفساد أو المحسوبية أو التمييز

خاتمة الفصل

الإعمار، كما نراه، ليس فقط بناء ما هُدم، بل هدم ما بُني على أساس غير عادل.
وإعادة الإعمار ليست عودة إلى ما كان، بل انطلاق نحو ما يجب أن يكون:
– بلدٌ يتساوى فيه الجميع أمام الطوب والإسمنت،
– تتحول فيه المشاريع إلى عدالة،
– وتُبنى فيه المدن على قاعدة الحقوق لا الولاءات.

فمن بين الأنقاض، لا نُقيم أطلالًا حديثة، بل نبني مشروع الدولة السيادية القادرة على حماية كرامة مواطنيها قبل جدران منازلهم.