القسم التاسع – الباب الخامس
الفصل الرابع والعشرون الذكاء الاصطناعي والسيادة الرقمية
من التبعية التكنولوجية إلى التمكين الوطني
مقدمة تأسيسية:
لم تعد التكنولوجيا في العالم المعاصر رفاهيةً أو حقلًا اختصاصيًا محدودًا، بل أصبحت أحد أركان السيادة الوطنية، وأداةً لإعادة تشكيل مفهوم القوة والتحكم والتمثيل. ففي زمن تُدار فيه الحروب والمعرفة والاقتصاد والثقافة عبر الخوارزميات، يصبح امتلاك القرار السيبراني، والسيادة على البيانات، شرطًا لا غنى عنه لاستقلال أي دولة تسعى لحماية إنسانها وبناء نهضتها.
في سوريا القديمة، كانت الفجوة الرقمية عميقة ومقصودة: تعمد النظام تجاهل الثورة الرقمية، لا ضعفًا، بل لخشيةٍ من آثارها التحررية. وحين استخدم التكنولوجيا، كانت وسيلة مراقبة وقمع لا أداة معرفة وتطوير. أما في مشروع النهضة، فإن الذكاء الاصطناعي ليس امتيازًا مؤسساتيًا، بل حقٌ إنساني ووطني يجب أن يُتاح لكل مواطن، ضمن بيئة سيادية تحفظ البيانات، وتُطوّر القدرات، وتُدير المنصات بوصفها أدوات تمكين لا استلاب.
أولًا: التبعية الرقمية في التجربة السورية
- اعتماد شامل على بنى أجنبية مغلقة، بلا قدرة على التحكم الداخلي.
- سيطرة الأجهزة الأمنية على كل بوابات الاتصال والمنصات العامة.
- غياب البنية القانونية لحماية خصوصية الأفراد، وتحوّل البيانات إلى سلاح ابتزاز.
- تهميش المهارات التقنية الوطنية، واستبعاد الابتكار المحلي من مراكز القرار.
ثانيًا: الفلسفة السيادية لمشروع النهضة في الفضاء الرقمي
- التكنولوجيا حقّ سيادي لا سلعة مستوردة.
- المواطن هو مالك بياناته، لا الدولة، ولا الشركات.
- الذكاء الاصطناعي وسيلة تحرير وتحديث، لا رقابة وتحكّم.
- الرقمنة ليست تحسينًا للإدارة، بل أداة تغيير بنيوي للحوكمة.
ثالثًا: مجالات العمل لبناء سيادة رقمية متكاملة
- في التعليم: – تعميم مناهج البرمجة والذكاء الاصطناعي منذ المرحلة الابتدائية. – تأسيس كليات ومعاهد متخصصة ترتبط بخطة وطنية تقنية. – إعداد مدرّبين محليين لتقليص الاعتماد على الخارج.
- في البنية التحتية: – إنشاء شبكة إنترنت وطنية عالية الأمان والمصداقية. – إنشاء مراكز بيانات (Data Centers) داخلية تُدار بسيادة وطنية. – إلغاء الاعتماد على برامج تجارية احتكارية لصالح البرمجيات الحرة المفتوحة.
- في التشريعات والسياسات: – إصدار قانون وطني لحماية البيانات يضع المواطن في المركز. – تنظيم استعمال الذكاء الاصطناعي لمنع انحرافه التمييزي أو الأمني. – منع نقل أي بيانات إلى جهات خارجية دون رقابة مؤسسية صارمة.
- في الخدمات العامة: – رقمنة المؤسسات الحكومية، مع ربط البيانات بين القطاعات بشفافية. – استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين توزيع الموارد والخدمات للمواطنين. – إدخال التوقيع الرقمي، والسجلات الموحدة، في العمليات الإدارية والقانونية.
- في الأمن السيبراني: – إنشاء هيئة سيادية مستقلة للأمن السيبراني، غير تابعة لأي جهاز أمني. – تدريب كوادر وطنية لحماية البنية الرقمية، ومكافحة الاختراق الخارجي. – إصدار سياسات وطنية للردع السيبراني في حالات التهديد أو الابتزاز.
رابعًا: نحو أخلاقيات سيادية للذكاء الاصطناعي
- يجب أن يخدم الإنسان لا أن يستغله.
- يُمنع استخدامه في تصنيف المواطنين على أساس الولاء أو الهوية.
- يُدمَج في منظومة العدالة الاجتماعية بوصفه أداة لردم الفجوة، لا لتوسيعها.
- يُراقَب استخدامه في الإعلام، والتعليم، والخدمات، بما يضمن المساواة والشفافية.
خاتمةالفصل
إن امتلاك السيادة الرقمية ليس حاجة سيادية أساسية إضافيًا، بل شرط وجود لأي دولة تريد حماية استقلالها وكرامة إنسانها في القرن الحادي والعشرين. ومشروع النهضة لا يبشّر فقط بدولة تواكب العصر، بل بدولة تُعيد امتلاك العصر نفسه، وتحوّل أدواته من وسائل سيطرة إلى مسارات تحرر.
فالخوارزميات التي تُستخدم اليوم لمراقبة الإنسان، يمكن أن تتحول غدًا لخدمته؛ والبيانات التي تُستثمر لتضييق العيش، يمكن أن تُحوَّل إلى بنية لعدالة توزيع الفرص والموارد. وهكذا، تصبح التقنية لا عبئًا، بل دعامة للنهضة السورية المنشودة.