web analytics
القسم العاشر – الباب الرابع

الفصل الخامس عشر مراكز الفكر وصناعة السياسات

من التوصيات إلى التأثير المؤسسي

تحويل المعرفة من إنتاج منفصل إلى وظيفة سيادية داخل منظومة اتخاذ القرار الوطني

 أولًا: الإشكالية – الغياب الممنهج للعقل الاستراتيجي

لم تعرف الدولة السورية مفهوم “مراكز الفكر” أو “خزانات التفكير” بوصفها أدوات سيادية، بل جرى تغييبها عمدًا لحماية السلطة من أي مساءلة معرفية أو نقدٍ مؤسسي.

أُقصيت الجامعات، وحوصرت مراكز الأبحاث، وتحوّلت القرارات الكبرى إلى اجتهادات فردية مغلقة، قائمة على الولاء لا الكفاءة، والانطباع لا التحليل.

وغابت عن الدولة أدوات التوقع، والتحليل، والتخطيط الطويل الأمد، مما جعلها:

عاجزة عن قراءة التحولات.

فاقدة للقدرة على الاستجابة.

رهينة للقرارات الارتجالية، وردود الأفعال، وإملاءات الخارج.

 ثانيًا: التحديات البنيوية في توطين مراكز الفكر وصناعة القرار

غياب التقاليد المؤسسية في إشراك الخبرة الفكرية والعلمية بصناعة القرار.

انفصال المنظومة المعرفية عن دوائر صنع السياسات (بيروقراطية مغلقة).

انعدام التمويل الوطني الشفاف والبيئة القانونية المستقلة لهذه المراكز.

تسييس مخرجات البحث وتوظيفها لتبرير القرار بدل نقده أو تطويره.

ضعف التواصل بين مراكز الأبحاث والمجتمع، مما حوّل المعرفة إلى مادة نخبوية معزولة.

 ثالثًا: الرؤية الجديدة – المعرفة كمكوّن بنيوي في الدولة

ضمن مشروع النهضة، يُعاد الاعتبار لمراكز الفكر وصناعة السياسات بوصفها:

بُنى سيادية داعمة لاتخاذ القرار، وليست مجرد أدوات استشارية ثانوية.

جسورًا بين الخبرة والمجتمع والسلطة، تضمن تحويل المعرفة إلى سياسات واقعية.

مساحات حرّة للعصف الذهني الوطني، تتنبّأ بالأزمات، وتقترح البدائل، وتُقيّم الأداء.

 رابعًا: خطوات العمل لبناء منظومة وطنية لصناعة السياسات عبر مراكز الفكر

1. إقرار الدور الدستوري والاستراتيجي للمعرفة في صنع القرار

تضمين مبدأ “الاستناد إلى المعرفة” كأحد أسس الإدارة العامة.

اشتراط مرافقة كل استراتيجية حكومية بتقارير بحثية صادرة عن جهات مستقلة.

ضمان استقلال مراكز الفكر عن الحكومة، وربطها بالمجتمع والبرلمان.

2. تأسيس شبكة وطنية لمراكز الفكر المتخصصة والمتعددة

دعم إنشاء مراكز فكر وطنية مستقلة في مختلف القطاعات (الاقتصاد، الأمن، البيئة، التعليم…).

ضمان تنوعها الجغرافي والمؤسساتي، وربطها بالجامعات، والنقابات، والمجتمع المدني.

توفير تمويل مستقر وشفاف للمراكز الوطنية من صندوق سيادي للمعرفة.

3. دمج مراكز الفكر في آليات صياغة السياسات العامة

إلزام الوزارات بعرض مشاريع القوانين والسياسات على مراكز الفكر المتخصصة.

اعتماد مخرجات هذه المراكز كأحد مراجع النقاش البرلماني والرقابة التشريعية.

إشراكها في اللجان الوطنية العليا عند رسم الرؤى الكبرى (الخطة الوطنية – الاستراتيجيات القطاعية – الموازنات).

4. تحقيق التكامل بين مراكز الفكر والمجتمع

نشر المخرجات البحثية بلغة مفهومة وميسّرة للمواطن.

تنظيم حوارات وطنية دورية تُنتج من هذه المراكز وتُناقش مجتمعيًا.

إدماج الشباب، والنساء، والفئات المهمشة، والشتات، في شبكات الإنتاج المعرفي الوطني.

5. تحويل التوصيات إلى أدوات قرار ملزمة ومتابعة

إقرار آلية رسمية لمتابعة تنفيذ ما يصدر عن مراكز الفكر من توصيات استراتيجية.

إنشاء وحدة متابعة داخل كل وزارة معنية، تتفاعل مع تقارير المراكز وتستجيب لها.

ربط التمويل والاعتماد المؤسساتي للمراكز بمستوى الأثر والسياسات التي تنتجها.

 خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية

  • المرحلة الأولى (أشهر 0–12)

إصدار القانون الوطني للمراكز الفكرية وصناعة السياسات العامة.

إنشاء مجلس تنسيق وطني للمراكز الفكرية، يضمن التنوع والتعاون والاستقلال.

افتتاح أول مركز وطني استراتيجي متعدد التخصصات مرتبط بالبرلمان.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

تعميم مبدأ “الورقة التحليلية المصاحبة” لأي قرار حكومي أو تشريعي.

ربط الجامعات ومراكز الأبحاث بمنصات صنع القرار عبر عقود شراكة رسمية.

إصدار أول تقرير سنوي موحّد عن السياسات العامة من إنتاج المراكز المستقلة.

  • المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)

تحويل مراكز الفكر إلى أدوات تقييم وتخطيط استباقي لجميع القطاعات.

تصنيف المراكز الفكرية ضمن أدوات الحوكمة العامة للدولة.

تطوير قاعدة بيانات وطنية موحّدة للسياسات والتقارير والتحليلات.

 سادسًا: مراكز الفكر كأداة توازن استراتيجي وضمانة للوعي المؤسساتي

إن الدولة التي تفكّر، هي دولة تحتكم إلى العقل قبل الغريزة، والمعرفة قبل الانفعال، والتحليل قبل الاستجابة.
ومراكز الفكر هي ذاكرة الدولة الحيّة، وبوصلتها الاستراتيجية، وضمانتها ضد التسرّع والتسلّط والتكرار.

وفي سوريا الجديدة، لن يُحتكر التفكير في المكاتب المغلقة، بل ستُفتح أبواب القرار أمام الكفاءات الوطنية، والعقول السورية، وكل صوت يحمل مشروعًا لا مصلحة شخصية.