القسم الحادي عشر – الباب الأول
الفصل الثاني السيادة الوطنية كمنطلق لكل سياسة
فلسفة الدولة الفاعلة
مقدمة تمهيدية
لا يمكن لأي مشروع سياسي أو نهضوي أن يُكتب له النجاح إن لم يُبْنَ على قاعدة سيادية صلبة، تنبع من الداخل، وتُعبّر عن إرادة حرة وغير مرتهنة.
فكل السياسات، مهما بلغت من اتقان، تفقد معناها وفاعليتها إن لم تكن مستندة إلى سيادة حقيقية، تضمن حرية القرار، وكرامة الشعب، واستقلال المصير.
ومن هنا، يُعالج هذا الفصل مفهوم السيادة ليس كمجرد مبدأ قانوني، بل كفلسفة حاكمة للدولة، ومصدر شرعية لكل فعل سياسي، ومنطلق ضروري لأي نهضة وطنية قابلة للتحقق.
أولًا – من السيادة كشعار إلى السيادة كفعل
لطالما استُخدمت “السيادة الوطنية” كشعار يُرفَع في الخطابات الرسمية للنظام السوري، فيما كان القرار الوطني يُباع تدريجيًا في أسواق النفوذ الدولية، ويتحوّل إلى سلعة بيد المحتلين والرعاة الإقليميين.
لقد تحولت السيادة إلى ستار يُخفي التبعية، وإلى قيد يُفرض على الداخل ويُستباح في الخارج.
من هنا، يبدأ هذا الفصل بتفكيك هذا الاستخدام الزائف للمفهوم، والتمييز بين السيادة كشعار سلطوي فارغ، والسيادة كفعل تحرري سيادي، يستند إلى الإرادة الشعبية، ويُترجَم إلى استقلال فعلي في القرار، والسياسة، والموارد، والتحالفات.
ثانيًا – فلسفة الدولة الفاعلة: من السلطة إلى السيادة
الدولة السيادية ليست الدولة التي تتحكم، بل التي تُمكِّن.
وليست التي تتشبث بالحدود، بل التي تُعبّر عن إرادة ناسها داخل تلك الحدود.
فالدولة الفاعلة لا تُقاس بحجم أجهزتها، بل بقدرتها على تمثيل المجتمع وخدمته، وبامتلاكها لأدوات صنع القرار الحرّ بعيدًا عن الوصاية أو الاملاءات.
إن الفلسفة التي يقوم عليها مشروع الدولة في سياق النهضة السورية يجب أن تُؤسّس على أن السيادة ليست غاية سلطوية، بل شرط تحرر، وأن الدولة الفاعلة هي تلك التي تنتج القوة من الشعب، لا من الخارج، وتوظف المؤسسات لخدمة الكرامة، لا لحماية امتيازات أقلية حاكمة.
ثالثًا – شروط السيادة الفعلية في السياق السوري
لا يمكن الحديث عن استعادة السيادة في سوريا دون معالجة الشروط البنيوية التي تعيق تحققها، ومن أبرزها:
وجود الاحتلالات العسكرية المتعددة، التي حولت سوريا إلى ساحة لتقاطع النفوذ الخارجي.
التبعية الاقتصادية العميقة، نتيجة العقوبات، والفساد، وسيطرة مافيات الحرب.
غياب التمثيل السياسي الحقيقي، وانعدام الشرعية الشعبية في النظام السابق، وفي معظم المشاريع الجزئية الحالية.
تفكك المجال العام والمجتمع السياسي، بما يجعل القرار يُصنع في الظل، لا في مؤسسات تمثيلية واضحة.
وعليه، فإن استعادة السيادة ليست قرارًا فوقيًا، بل عملية تحرير شاملة، تبدأ من المجتمع، وتمر عبر عقد اجتماعي جديد، وتنتهي ببناء دولة لا تخشى حرية القرار لأنها تستمد مشروعيتها من الداخل.
رابعًا – من السيادة القانونية إلى السيادة الوظيفية
في القانون الدولي، تُعرّف السيادة بوصفها الحق الحصري للدولة في ممارسة سلطتها داخل حدودها دون تدخل خارجي.
لكنّ هذا التعريف يبقى ناقصًا ما لم نُعيد صياغته بوصف السيادة وظيفة سياسية وأخلاقية، لا مجرد صفة قانونية.
فالسيادة في المشروع النهضوي السوري تُعرّف كالتالي:
هي قدرة الدولة على إنتاج القرار الحرّ، وتمثيل الإرادة الشعبية، وتفعيل أدوات الحماية والاستقلال، دون ارتهان أو استلاب، وبما يضمن كرامة الفرد، واستقرار المجتمع، وعدالة التوزيع، وتوازن العلاقات الدولية.
وهذا التعريف لا يكتفي بالاعتراف الدولي أو الانتماء للأمم المتحدة، بل يُحمّل الدولة مسؤولية داخلية وخارجية في آن: مسؤولية تمثيل حقيقي في الداخل، ومسؤولية حماية واستقلال في الخارج.
خامسًا – السيادة كمبدأ تأسيسي للنهضة
كل مشروع نهضة لا يستند إلى السيادة، هو مشروع تابع منذ ولادته.
وكل نظام سياسي يبني قوته على الدعم الخارجي دون امتلاك قاعدة داخلية، هو مشروع هشّ، وقابل للسقوط عند أول تحول استراتيجي في الإقليم.
لهذا، فإن السيادة ليست بندًا ضمن مشروع النهضة، بل هي شرط قيامه، ومركز ثقله، وضمانة استمراره.
ومن هنا فإن كل ما سيأتي لاحقًا في الخطط الاقتصادية، والإدارية، والدبلوماسية، يجب أن يُقاس على هذا المعيار: هل يُعزز السيادة أم يُقايضها؟ هل يُنتج استقلالًا فعليًا أم يُعيد إنتاج التبعية بأشكال جديدة؟
خاتمة الفصل
السيادة، في مشروع النهضة، ليست رديفًا للشعارات القومية الممجوجة، بل هي منطلق كل سياسة، وشرط كل نهضة.
فبدونها لا يكون للدولة قرار، ولا للشعب صوت، ولا للكرامة موقع.
وهذا ما يجعلها أول ما يجب استعادته، وأول ما يجب حمايته، في أي خطة لبناء سوريا جديدة فاعلة، حرة، ذات معنى ووزن ومكان في هذا العالم.