web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الأول

الفصل الثالث النهوض بالقرار السياسي الوطني

من التبعية إلى المبادرة

مقدمة تمهيدية

ليست معركة النهضة مع الأنظمة الاستبدادية فحسب، بل مع العقل السياسي التابع الذي فقد القدرة على المبادرة، واكتفى بالانفعال بدل الفعل، وبردود الفعل بدل الخيارات الحرة.

ولهذا، فإن بناء نهضة وطنية لا يكتمل ما لم يُعاد تشكيل القرار السياسي نفسه، لا من حيث شكله الإجرائي فحسب، بل من حيث جوهره: أن يتحرر من التبعية، ويستند إلى المصلحة الوطنية، ويُستعاد من أيدي القوى الخارجية، ليعود أداة للتعبير عن الإرادة الحرة للشعب.

أولًا – أزمة القرار السياسي في سوريا: انعدام المبادرة وارتهان المصير

منذ عقود، كان القرار السياسي في سوريا يدار من خارج منطق الدولة، ومن خارج حدود السيادة.
فالسلطة لم تكن تعبّر عن الإرادة الجمعية، بل عن إرادة نخبة صغيرة مرتهنة لتحالفات دولية وإقليمية، تتبدّل مصالحها بتبدّل المزاج الخارجي.

وبات القرار، في القضايا المصيرية، يصنع في عواصم أخرى، بينما تحوّلت الدولة إلى مجرّد منفّذ مطيع، أو تابع من دون إرادة.

هذه الأزمة لم تبدأ مع الحرب فحسب، بل تعود إلى ما قبلها بكثير:

حين تم ربط السياسات الخارجية بصفقات أمنية مع الغرب أو إيران أو روسيا.

وحين أُغلق الفضاء العام أمام أي نقاش فعلي حول السياسات.

وحين تم اختزال القرار السياسي في شخص الحاكم، وتغييبه عن مؤسسات تمثيلية حقيقية.

وحين صار موقع سوريا على خريطة النفوذ أهم من مصير الشعب الذي يعيش فيها.

ثانيًا – شروط استعادة القرار الوطني

لا يُستعاد القرار بمجرد إسقاط النظام أو إبعاد النخب الفاسدة، بل عبر عملية سياسية شاملة تُعيد تشكيل آليات اتخاذ القرار نفسه، وترتكز على عدة شروط:

التمثيل السياسي الحقيقي: لا يمكن أن يُعاد بناء القرار من دون مؤسسات تمثيلية تعبّر عن المكونات المجتمعية، وتمنح الشرعية والرقابة والمساءلة.

الاستقلال السيادي الكامل: القرار الوطني لا يُبنى على المنح الخارجية، ولا يُصاغ تحت ضغط السفير، بل على قاعدة المصلحة الوطنية غير القابلة للمساومة.

الوضوح الاستراتيجي: يجب أن يكون للقرار الوطني رؤية واضحة للمستقبل، لا أن يبقى مرتهنًا لردود الفعل والضغوط اللحظية.

الارتباط بالشعب لا بالنخبة: أي أن يُبنى القرار من خلال توافق مجتمعي، لا من خلال أجهزة مغلقة أو صفقات نخبوية.

ثالثًا – القرار السياسي كأداة تحرر لا كوسيلة سيطرة

في بنية النظام القديم، كان القرار السياسي أداة سيطرة وهيمنة، لا أداة إدارة وتوجيه.
كان يُستخدم لإخضاع الداخل، وشراء الخارج، وتصفية الخصوم، وضمان ديمومة السلطة.
أما في المشروع النهضوي، فإن القرار السياسي يجب أن يتحوّل إلى أداة تحرر:

تحرر من التبعية.

تحرر من التوريث السياسي والتفويض المطلق.

تحرر من الفساد والتلاعب واحتكار المعرفة بالمصالح العامة.

ولذلك، يجب أن يُعاد صياغة القرار بوصفه تعبيرًا عن عقد اجتماعي حيّ، لا عن شرعية موروثة أو قوة قهر.

رابعًا – الانتقال من التبعية إلى المبادرة: بناء عقل الدولة الجديد

لا يكفي أن نتحدث عن سيادة القرار، بل يجب أن نبني عقلًا سياسيًا جديدًا ينتج القرار من داخل بنية الدولة، ويعيد بناء ثقافة الفعل لا ثقافة الترقب.

هذا العقل لا يُختزل في شخص، بل يُبنى من خلال:

مؤسسات سياسية قوية ومستقلة.

مراكز تفكير واستشراف استراتيجي.

إعلام حرّ ينقل الحقائق لا يخفيها.

نخبة سياسية منتمية للناس لا مرتهنة لمراكز التمويل أو الضغط.

تعليم سياسي يعيد للناس ثقتهم بأنهم صانعو القرار، لا مجرد رعايا ينتظرون.

فقط حين تتحول سوريا من دولة تابعة إلى دولة مبادِرة، يمكن الحديث عن مشروع نهضة فعلي لا عن عملية تجميل خارجي.

خامسًا – مأسسة القرار: من الارتجال إلى التخطيط

القرار السياسي لا يكون سياديًا فقط لأنه مستقل، بل لأنه مؤسس على فهم، وتخطيط، واستشراف، ومشاركة.
ولهذا يجب أن تُبنى آليات اتخاذ القرار في الدولة الجديدة على قواعد:

الشفافية في تحديد الأولويات.

التدرج في التنفيذ وفق الإمكانيات.

الرصد المستمر للتأثيرات الداخلية والخارجية.

القابلية للتقييم والتصحيح والمحاسبة.

هذه العملية لا تكتمل إلا حين يُعاد بناء البيئة القانونية والإدارية والمؤسساتية التي تُخرج القرار من دائرة المزاجية والتفرد، وتُدخله في دائرة الدولة الفاعلة.

خاتمة الفصل

القرار السياسي الوطني هو المقياس الحقيقي لسيادة الدولة، والاختبار الفاصل بين التبعية والاستقلال.

ولهذا، فإن كل مشروع للنهضة لا يُعيد بناء القرار، ولا يُحرره من مصادر الارتهان، ولا يؤسّسه على قاعدة تمثيلية شفافة، سيبقى مجرّد إعادة إنتاج لعطبٍ قديم بثوبٍ جديد.

وفي لحظة التحول السوري، لن يكون بالإمكان تجاوز الانهيار ما لم تُستعاد سوريا كصاحبة قرار، وكدولة تملك الحق والقدرة والرؤية لتُحدّد مصيرها بوعي ومبادرة ومسؤولية.