القسم الحادي عشر – الباب الأول
الفصل الرابع بناء الإرادة الجمعية
تحويل الشعب إلى حامل للنهضة
مقدمة تمهيدية
لا تنهض الأوطان عبر النخب وحدها، ولا تُبنى الدولة بإرادة فوقية منفصلة عن الناس.
فأي مشروع نهضوي لا يُترجم إلى وعي شعبي وإرادة جمعية، يظل حبيس الأوراق، مهما بلغ من الإتقان.
ومن هنا، فإن النهضة الحقيقية تتطلب بناء حواضن مجتمعية واعية وفاعلة، تجعل من الشعب شريكًا في التأسيس، لا متلقيًا لنتائج التغيير.
وهذا الفصل يعالج مسألة مركزية في كل تحوّل تاريخي: كيف يتحول المجتمع من جمهور منفعل إلى حامل فعلي للنهضة، وكيف تُبنى الإرادة الجمعية كقوة سيادية شاملة.
أولًا – المجتمع السوري: من التفكك القسري إلى القابلية للتماسك
لقد أُنهك المجتمع السوري خلال عقود من الاستبداد، ثم تكسّر في جحيم الحرب.
تمّت معاقبته سياسيًا وثقافيًا، وتحويله إلى مجرّد ميدان صراع بين سلطات متعاقبة وأجندات متنازعة، حتى بات الكثيرون يشكّكون بإمكانية إعادة لحم النسيج الوطني.
لكنّ الحقيقة هي أن المجتمع السوري – رغم كل الجراح – لا يزال يحتفظ بمخزون هائل من الروح الجمعية، والرغبة في الاستقرار، والحنين إلى دولة تحترمه وتحميه.
إن التحدي لا يكمن فقط في الخروج من الانقسام، بل في تحويل هذا المجتمع إلى فاعل جمعي جديد، يُنتج إرادته، ويحمي مشروعه، ويشارك في قراره.
ثانيًا – من الانفعال إلى الفاعلية: شروط بناء الإرادة الجمعية
الإرادة الجمعية لا تُولد من الدعوات الأخلاقية وحدها، بل تحتاج إلى:
مشروع جامع يُعيد تشكيل المعنى العام، ويمنح الناس أفقًا سياسيًا وإنسانيًا.
ثقة بين المجتمع والدولة، تقوم على الشفافية والعدالة والتمثيل.
مساحة عامة حرة تسمح بالنقاش، والتعبير، والمساءلة، والمبادرة.
عدالة في توزيع الفرص والموارد، تُشعر الناس بأنهم متساوون في القيمة والمصير.
نخبة قيادية نابعة من قلب المجتمع، لا مفروضة عليه من الخارج أو من فوق.
بدون هذه الشروط، ستظل العلاقة بين الشعب والمشروع الوطني علاقة تلقي، لا علاقة انتماء حقيقي ومسؤولية مشتركة.
ثالثًا – تفكيك عقلية الرعية: الإنسان كفاعل لا كموضوع
النظام القديم بنى سلطته على أساس تحويل المواطنين إلى رعايا، لا يملكون قرارًا، ولا يشاركون في صناعة المستقبل.
بل جرى تعميم عقلية الخوف، والتسليم، والنجاة الفردية، حتى في أكثر اللحظات الجماعية.
ولهذا، فإن بناء النهضة يقتضي ثورة ثقافية مضادة لهذه البنية، تقوم على إعادة تعريف المواطن كفاعل سياسي، وركن سيادي، ومصدر للشرعية لا كمتلقي للسلطة.
يتطلب ذلك إعادة بناء المناهج، والخطاب العام، والإعلام، والمؤسسات التمثيلية، من أجل ترسيخ قيم المبادرة، والمسؤولية، والمشاركة، بدلاً من قيم الخضوع والخوف والحياد القاتل.
رابعًا – الأدوات العملية لتحويل المجتمع إلى حامل للنهضة
حتى تكون الإرادة الجمعية حقيقة لا مجازًا، لا بد من بناء أدوات تجعلها فعالة ومنتجة، وأبرزها:
المجالس المحلية المنتخبة، التي تمثل الناس فعلًا، وتربط المركز بالأطراف.
مساحات حوارية مفتوحة على كل المستويات، من المدارس إلى الجامعات، ومن النقابات إلى منابر الإعلام.
آليات المشاركة في القرار، كالاستفتاءات، والهيئات الرقابية، والتمثيل المباشر في التخطيط.
برامج تعبئة وطنية مدنية، تربط الشباب خاصة بمشروع النهضة، وتُخرجهم من الهامش إلى القلب.
سياسات إعلامية وثقافية تعليمية جديدة، تُعيد الاعتبار للهوية الجامعة، وتُبطل خطابات التطييف، والتخوين، والانقسام.
الإرادة لا تبنى بالخطابات، بل بالبنية التي تحرّكها وتحميها وتُعطيها صوتًا ووزنًا.
خامسًا – المجتمع كمصدر للسيادة لا كعبء على الدولة
في النموذج السلطوي، يُنظر إلى المجتمع كتهديد يجب ضبطه، أو كحاضنة سلبية تحتاج إلى إخضاع.
أما في مشروع النهضة، فإن المجتمع هو مصدر السيادة، وحارسها، وأداة ديمومتها.
فلا يمكن لأي دولة أن تمتلك سيادتها إن لم يكن مجتمعها مشاركًا في القرار، مؤمنًا بالانتماء، مستعدًا للدفاع عن مشروعه، واثقًا من أن مكانته محمية وفاعليته مضمونة.
ومن هنا، لا يكون تحويل الشعب إلى حامل للنهضة مجرد حاجة عملية، بل ضرورة فلسفية وسياسية في بنية الدولة الجديدة، التي لا تقوم على القهر، بل على التشارك، ولا تُبنى على وهم الاستقرار بالقوة، بل على حقيقة الاستقرار بالانتماء والإيمان.
خاتمة الفصل
إن بناء الإرادة الجمعية هو التحدي الأكبر في أي مشروع نهضوي، لأنه الميدان الذي تُختبر فيه جدية المشروع، ومصداقيته، وقدرته على التعبئة الأخلاقية والسياسية.
ومن دون شعب واعٍ، منتمٍ، ممكّن، سيبقى أي مشروع مجرد رؤية معطّلة، أو خطاب معزول.
ولهذا، فإن تحويل الشعب إلى حامل للنهضة هو جوهر المشروع، وروحه، وضمانة استمراره.