القسم الحادي عشر – الباب الثاني
الفصل الثاني عشر مشروع التحرر الوطني
من تحرير الأرض إلى تحرير القرار
مقدمة تمهيدية
لطالما ارتبط مفهوم “التحرر الوطني” في الوعي السوري، والعربي عمومًا، باستعادة الأرض المحتلة وطرد الاستعمار الخارجي، حتى صار هذا المفهوم محصورًا بالجغرافيا وحدها، ومفصولًا عن البنية السياسية التي تنتج التبعية والاستلاب.
لكنّ تجربة العقود الأخيرة أثبتت أن تحرير الأرض وحده لا يعني السيادة، ولا يضمن الكرامة، ولا يُنتج وطنًا حرًا إذا لم يترافق مع تحرير القرار، وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس الإرادة الحرة.
ومن هنا، يُعاد تعريف مشروع التحرر الوطني في سياق النهضة السورية بوصفه مشروعًا شاملًا لتحرير الإنسان، والنظام السياسي، والقرار، والموارد، وليس فقط حدود الجغرافيا.
أولًا – من التحرير الجغرافي إلى التبعية السياسية: التناقض البنيوي
شهدت سوريا، كما غيرها من دول المنطقة، مفارقة مؤلمة:
تحررت من الاستعمار الرسمي في منتصف القرن العشرين، لكنها دخلت سريعًا في عصر جديد من التبعية، تم فيه اختطاف القرار الوطني لصالح تحالفات، ومحاور، وأجهزة أمنية، ومصالح خارجية.
فلم يكن نظام “الاستقلال” سوى غطاء لممارسات خضوع متعددة المستويات:
قرارات خارجية تُمرَّر باسم المصلحة القومية.
أيديولوجيات تُوظّف لتبرير استبداد داخلي.
حروب تُخاض لصالح الآخرين.
شعوب تُمنع من الحريّة باسم “قضية أكبر”.
وهكذا، لم تُنتج التحرّكات التحريرية التقليدية نظامًا سياديًا، بل أعادت إنتاج الاستلاب بشكل داخلي مقنَّع.
ثانيًا – مفهوم التحرر الوطني في مشروع النهضة
التحرر الوطني لا يكتمل بإخراج الجيوش فقط، بل بإخراج الهيمنة من القرار، والاستبداد من الحكم، والتبعية من العقل السياسي.
ولذلك، فإن مشروع النهضة يطرح التحرر الوطني بوصفه مشروعًا متكاملًا يشمل:
تحرير الإنسان من الخوف والتجهيل والتهميش.
تحرير القرار من التوجيه الخارجي والارتهان للمحاور.
تحرير السياسة من الفرض القسري والتمثيل الزائف.
تحرير الاقتصاد من التبعية المطلقة ومن سيطرة النخب الريعية.
تحرير الجغرافيا من الاحتلال، ولكن ضمن مشروع وطني داخلي فاعل، لا مجرّد مناورة دعائية.
ثالثًا – العلاقة الجدلية بين التحرر والسيادة
التحرر هو المقدمة الضرورية للسيادة، لكنه ليس كافيًا إذا بقي دون بناء مشروع جامع.
ولهذا، فإنّ مشروع التحرر الوطني لا يُختزل في مقاومة الاحتلال فقط، بل يُستكمل عبر:
تأسيس مؤسسات تمثيلية تحمي القرار الوطني.
مأسسة الدفاع الوطني بعيدًا عن الفصائلية والخضوع الخارجي.
رفض مشاريع التجزئة والوصاية مهما كانت شعاراتها.
إعادة الاعتبار للبعد الشعبي في التحرر، لا اختزاله في النخب أو العسكر.
ربط قضايا التحرير بالعدالة والكرامة والديمقراطية، لا بفروض الطاعة أو الهيمنة.
رابعًا – مواجهة مشاريع التحرر المزيف
عانت سوريا من نماذج متعددة لتحرّكات تحمل اسم “التحرر”، لكنها في حقيقتها:
تُعيد إنتاج الاستبداد باسم “الوطنية”.
تُبرّر التدخل الخارجي باسم “الحماية”.
تُقسم البلاد باسم “الإدارة الذاتية” أو “الخصوصية القومية”.
تُحيي الهويات ما قبل الوطنية باسم التحرر من المركز.
أو تُعيد إنتاج أجهزة القمع بلبوس جديد.
ولذلك، فإن التحرر الحقيقي يُقاس بقدرته على توحيد الأرض والإرادة، وتمكين الشعب، واستعادة القرار، لا بشعارات فارغة أو منجزات شكلية.
خامسًا – أفق التحرر الوطني في سوريا الجديدة
لا يمكن أن يكتمل مشروع النهضة دون رؤية استراتيجية متكاملة للتحرر الوطني تشمل:
تحرير الجنوب السوري من الاحتلال الإسرائيلي ضمن خطة وطنية سيادية جامعة.
مواجهة الاحتلالات الأخرى (التركي، الإيراني، الروسي، الأمريكي) عبر وسائل سياسية–ميدانية مدروسة، تستند إلى الداخل ولا تُستدرج لصراعات المحاور.
رفض مشاريع التقسيم والتفتيت التي تُبنى على انعدام المشروع المركزي الموحد.
بناء مقاومة وطنية شاملة تقوم على الإرادة الشعبية والمؤسسة الشرعية، لا على فصائل متنازعة أو مُدارة خارجيًا.
تأهيل المجتمع ليكون هو حامل مشروع التحرر لا مجرد تابع أو ضحية.
خاتمة الفصل
إن مشروع التحرر الوطني لم يعد معركة على الحدود فقط، بل هو معركة داخل النفس والعقل والسياسة والاقتصاد والمجتمع.
هو تحرير الدولة من أدوات الاستعباد، والمجتمع من القهر، والسيادة من التشظي، والإرادة من الوصاية.
وحين نعيد تعريف التحرر بهذا المعنى، فإننا لا نُلغِي قضية الأرض، بل نُعيد ربطها بقضية الإنسان، ونمنحها شرعية لا تُستعمل كغطاء للاستبداد، بل كعنوان للنهضة الشاملة.