web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثالث

الفصل السابع عشر المواجهة الناعمة والاستباق الوقائي

الحرب الرمزية والمعنوية

مقدمة تمهيدية

لم تعد الحرب تُخاض بالسلاح وحده، ولا السيادة تُنتزع بالقوة العسكرية فقط.

في عالم اليوم، أصبحت الحرب الناعمة هي الشكل الأخطر للصراع: حرب تُخاض على العقول لا على الحدود، على الرموز لا على المواقع، على الهوية والمعنى قبل أن تصل إلى الخنادق.

وسوريا، التي انهارت فيها بنى الدولة وتآكلت فيها الثقة، باتت ميدانًا مفتوحًا لهذه الحرب، حيث تُستهدف إرادة المجتمع، وتُشوّه رموز النهضة، ويُزرع الشك في المعنى ذاته للسيادة والاستقلال

ومن هنا، يصبح بناء منظومة مواجهة ناعمة واستباق وقائي ضرورة استراتيجية، لا في خدمة السلطة، بل في حماية الوعي الوطني من التحلل والاختراق.

أولًا: ملامح الحرب الناعمة في سوريا: تفكيك الهوية قبل إسقاط الجغرافيا

تُمارَس الحرب الناعمة في سوريا بأشكال متعددة:

تشويه فكرة الثورة والحرية وربطها بالفوضى أو الإرهاب.

ضرب الرموز الوطنية الحيّة، وتقديم رموز مصنّعة خارج السياق المحلي.

نشر السخرية والإحباط كآليات كسر معنوي دائم.

إنتاج إعلام “محايد” يخفي الانحياز وينشر التفكك القيمي.

زرع الانقسام الطائفي والإثني بوصفه حقيقة لا يمكن تجاوزها.

نزع الثقة بأي مشروع وطني جامع، وتقديم مشاريع مجزأة على أنها الواقعية الوحيدة.

إنها حرب لا تُعلن، ولا تُواجه بالطريقة التقليدية، لكنها أعمق أثرًا وأطول أمدًا.

ثانيًا: الاستباق الوقائي: من رد الفعل إلى المبادرة المعنوية

في مواجهة هذا النوع من الحروب، لا يكفي الدفاع أو التوضيح، بل يجب بناء قدرة على:

الاستباق المعنوي والفكري، أي فهم ما يُراد زرعه في وعي الناس قبل أن يُصبح واقعًا.

إنتاج خطاب وطني متماسك قادر على الإقناع والتجديد والتجاوز.

استعادة الرموز الوطنية المغتصبة أو المحطمة، وإعادة تعريفها في ضوء مشروع النهضة.

إدخال الوعي الجمعي في المعركة دون تسييسه أو أَدلجته.

منع التفكك الثقافي من أن يُشرعن بوصفه تنوعًا، أو أن يُحتفى به كدليل حداثة وهمي.

ثالثًا: أدوات المواجهة الناعمة في الدولة السيادية

إعلام وطني حرّ وهادف، لا تابع ولا دعائي، قادر على الاستباق، لا التبرير.

مؤسسات ثقافية ومعرفية تُنتج المعنى المحلي لا تستورده، وتُقوّي الهوية لا تُذيبها.

تحديث مناهج التعليم والتربية السياسية، لإنتاج وعي نقدي لا تبعي.

إحياء الفن والإبداع والمسرح والسينما كوسائل مقاومة ثقافية لا ترف فني.

منصات رقمية قادرة على كسر الاحتكار المعلوماتي الخارجي، والتفاعل لا الانفعال.

إعادة تعريف “الرمز الوطني” بوصفه انعكاسًا لإرادة الناس لا صورة رسمية مفروضة.

رابعًا: معركة الرواية: من نفي الذات إلى إعادة التعريف

من أخطر ما أفرزته الحرب السورية هو فقدان القدرة على امتلاك روايتنا الخاصة.
تعددت الروايات وتصارعت:

رواية النظام الأمني.

رواية المعارضة المدعومة.

رواية الخارج المتحيز.

روايات الأقليات المهمّشة أو المتمردة.

لكن الغائب الأكبر كان: رواية وطنية واحدة تُعيد تعريف ما حدث، ولماذا حدث، وما الذي يجب أن يحدث.

وهذه الرواية لا تُكتب في الإعلام فقط، بل تُبنى من خلال:

التاريخ المُراجع لا المُزيّف.

اللغة التي تُوحد لا تُقصي.

خطاب السيادة لا خطاب الانفعال.

مشروع وطني يقدّم البديل دون تبسيط.

خامسًا: الثقة كهدف استراتيجي

في كل حرب ناعمة، الهدف الأول هو كسر الثقة:

الثقة بالذات.

الثقة بالمجتمع.

الثقة بالمشروع.

الثقة بأي إمكانية للخروج.

ولهذا، تصبح استعادة الثقة العامة مهمة أمنية–معنوية عليا، لا بوصفها شعورًا، بل كمنظومة عمل تشمل:

الصدق في الطرح.

الجرأة في المواجهة.

الإنصاف في التقييم.

الإبداع في التعبير.

إنها سياسة من نوع جديد، تدير المعنويات لا لتخديرها، بل لتحفيزها.

خاتمة الفصل

الحرب الرمزية والمعنوية لا تُواجه بالمراسيم، بل بالمعنى.
ولا تُردّ بالإعلام التعبوي، بل بالثقة المنتجة من واقع عادل، وصوت حر، ورؤية واضحة.

وفي سوريا، حيث جُرّدت الثورة من رمزيتها، والدولة من مكانتها، والناس من أملهم، فإن المواجهة الناعمة هي معركة النهضة الكبرى، لأنها تُعيد كتابة الوعي نفسه، وتستعيد السيطرة على اللغة، والصورة، والانتماء.

فلا سيادة بدون سردية، ولا أمان بدون وعي، ولا مستقبل دون ثقة.