القسم الحادي عشر – الباب الثالث
الفصل الثامن عشر تحصين الداخل من الاختراق الخارجي
البنى الناعمة كدرع سيادي
مقدمة تمهيدية
لا تُخترق الدول فقط عبر جيوش غازية أو صفقات سياسية، بل غالبًا ما تبدأ السيطرة من داخلها، عبر تفكيك بنيتها الناعمة: الإعلام، التعليم، الثقافة، المجتمع المدني، الخطاب، الرمز، والوعي.
وفي سوريا، لم يأتِ الانهيار من الخارج وحده، بل من قابلية الداخل للاختراق بسبب ضعف المؤسسات، وتآكل السيادة، وغياب التماسك الوطني.
ومن هنا، فإن تحصين الداخل لا يكون بردع السلاح وحده، بل ببناء بنية ناعمة صلبة، تقف كدرع سيادي يحمي المجتمع من الاستلاب، ويُعيد تنظيم العلاقة بين الدولة ومجالها الحيوي.
أولًا: الاختراق الخارجي كظاهرة داخلية التمكين
حين تضعف الدولة، لا يدخل العدو من الحدود، بل من شقوق السيادة الداخلية:
عبر الإعلام الموجَّه والفضاءات الرقمية المفتوحة دون حوكمة.
عبر منظمات مجتمع مدني تُدار من الخارج تحت غطاء الدعم أو التنمية.
عبر التعليم الموجَّه أو المُختَرَق، الذي يُنتج عقولًا مُبرمجة.
عبر النخب المُموَّلة التي تعمل كقنوات نفوذ سياسي.
عبر الثقافة المُستوردة التي تُعلي من قيم ما بعد الوطنية، أو ما بعد الدولة، أو ما بعد المعنى.
هنا لا يكون الخارج عدوًا عسكريًا مباشرًا، بل فاعلًا بنيويًا يُعيد تشكيل الداخل وفقًا لمصالحه.
ثانيًا: مفهوم التحصين: استعادة السيادة الرمزية والمؤسسية
التحصين لا يعني الإغلاق، ولا العزلة، ولا الرقابة القمعية، بل هو:
تنظيم العلاقة مع الخارج ضمن قواعد سيادة قانونية وقيمية واضحة.
تمكين المجتمع من مقاومة الإملاء الناعم عبر الوعي والمؤسسات.
إعادة بناء الثقة بالداخل بحيث لا يُنظر إلى الخارج كمُنقذ أو بديل.
مأسسة التعاون الدولي دون اختراق بنيوي أو تزييف للشرعية الوطنية.
وهذا يتطلب أولًا الاعتراف بأن البنية الناعمة ليست حيادية، بل فضاء صراع لا يقل أهمية عن القرار السياسي.
ثالثًا: أدوات التحصين البنيوي في الحالة السورية
حوكمة المجتمع المدني: دعم المبادرات المجتمعية المستقلة، وتقييد التمويل المشروط أو المشبوه، ورفض النماذج المنسوخة.
إصلاح التعليم: مناهج سيادية متوازنة، تُعيد بناء الهوية السورية الجامعة، وتحفّز العقل النقدي بدل الانسياق الأيديولوجي أو الثقافي.
بناء إعلام سيادي تعددي: يملك أدواته، يحاور العالم، ولا يستنسخ لغته.
إعادة تأهيل النخب السياسية والفكرية على قاعدة الانتماء الوطني لا الولاء المصلحي أو التمويلي.
بناء ثقافة قانونية–سياسية جديدة تُدرَّس وتُمارَس، تجعل من السيادة والتمثيل والكرامة عناصر وعي مجتمعي لا مفردات خطاب رسمي.
رابعًا: ضبط العلاقة مع الفاعلين الدوليين: لا ابتزاز ولا ارتهان
لا يعني التحصين معاداة الخارج أو إغلاق الأبواب، بل:
التعامل مع المنظمات الدولية وفق قواعد الشفافية والندية.
حظر أي نشاط سياسي داخلي يمول خارجيًا دون رقابة وطنية.
إعادة تعريف مفهوم “الدعم الخارجي” بوصفه شراكة لا وصاية.
بناء شبكات حماية قانونية ودستورية تمنع تحويل المؤسسات الوطنية إلى أدوات ضغط غير مباشرة.
وهذا يقتضي أن تمتلك الدولة مركز قرار سياديًا فعليًا قادرًا على التوازن، لا خاضعًا للتمويل أو المحاور.
خامسًا: الوعي الجمعي كخط الدفاع الأول
في النهاية، لا يُفلح أي تحصين قانوني إذا لم يكن المجتمع نفسه:
واعيًا بنمط الاستهداف الناعم.
منتميًا لهوية جامعة قادرة على امتصاص التنوع دون أن تتشظى.
مدرَّبًا على التفكير النقدي، لا التكرار السلبي.
واثقًا من قدرته على الإنتاج الثقافي والسياسي والمعرفي دون وصاية.
ولهذا، فإن بناء الوعي الجمعي السيادي هو هدف أمني–ثقافي–وطني طويل الأمد.
خاتمة الفصل
تحصين الداخل من الاختراق الخارجي ليس عملًا تقنيًا، بل جزء من معركة السيادة الأعمق.
فإذا كانت الدولة لا تملك أن تُغلِق حدودها، فعليها أن تُحكم بنيتها، وتُنظّم فضاءها، وتبني درعها الناعم الذي يجعل من الانفتاح فرصة لا تهديدًا، ومن العلاقة مع العالم شراكة لا اختراقًا.
فالدول تسقط من الداخل قبل أن تُهزم من الخارج، وحين يُبنى الداخل على الوعي، والكرامة، والمرجعية الوطنية، لا تعود حدودها وحدها هي الخط الدفاعي، بل كل مؤسسة فيها، وكل فرد، وكل معنى.