web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الرابع

الفصل التاسع عشر التحرك الدبلوماسي المستقل

من الصمت إلى المبادرة

مقدمة تمهيدية

في سياق السياسات الخارجية، كثيرًا ما ارتبط اسم سوريا بـ”الممانعة”، ولكن من دون قدرة فعلية على التأثير أو المبادرة.
عُرفت الدولة السورية بصمتها الانتقائي، بمواقفها التي تتغيّر وفق توازنات القوى لا المبادئ، وبعلاقاتها الخارجية التي تتأرجح بين التماهي والتحدي دون استراتيجية متماسكة.

أما في مشروع النهضة، فإن التحرك الدبلوماسي لا يُبنى كرد فعل أو ترف سياسي، بل بوصفه أداة سيادية تعكس استقلال القرار الوطني وتُترجم مصالح الدولة بفعالية ضمن النظام الدولي.

ومن هنا، ينتقل هذا الفصل من نقد الصمت السوري المزمن، إلى تأسيس رؤية للتحرك الدولي الفاعل والمستقل، تُخرِج سوريا من موقع الهامش، وتُعيد رسم علاقتها مع العالم من موقع الإرادة لا الخضوع.

أولًا: الصمت الدبلوماسي كأداة تابعة لا كحياد سيادي

طوال عقود، تبنّت السلطة في سوريا سياسة “الصمت” أو “الغموض البنّاء” كأداة في مواجهة الضغوط الدولية، لكن هذا الغموض لم يكن يومًا فعلًا سياديًا، بل:

غطاءً لضعف الموقف الداخلي.

وسيلة للهروب من استحقاقات الحقوق والعدالة.

تكتيكًا مؤقتًا يُدار عبر الخارج لا من مركز سيادي داخلي.

وأحيانًا مراهنة على تحولات الخارج بدل بناء نفوذ وطني مستقر.

والنتيجة كانت عزلة سياسية غير منتجة، أفقدت سوريا القدرة على المبادرة، وحوّلت ملفها إلى مادة تفاوض بين القوى الأخرى.

ثانيًا: التحرك المستقل: من رد الفعل إلى صياغة السياسات الخارجية

التحرك الدبلوماسي المستقل لا يعني معاداة الجميع، بل امتلاك رؤية وطنية واضحة ومتماسكة تُوجّه العلاقات الخارجية وفق المبادئ الآتية:

استقلال القرار: لا دبلوماسية ذات معنى إذا كان القرار السيادي مرتهنًا.

المصلحة الوطنية العليا: لا تحالفات مجانية ولا اصطفافات أيديولوجية.

الندية والاحترام المتبادل: رفض الوصاية والتبعية، والسعي إلى بناء شراكات لا تبعيات.

المبادرة بدل التلقي: الانخراط الفاعل في القضايا الإقليمية والدولية، من موقع المبادئ والمصالح الوطنية.

الربط بين الداخل والخارج: بحيث تُترجم الشرعية الوطنية الجديدة إلى شرعية خارجية، ويخدم التمثيل الخارجي مشروع النهضة لا سلطة النظام.

ثالثًا: مرتكزات التحرك السوري الجديد

يتأسس التحرك الدبلوماسي في سوريا الجديدة على جملة من المحاور المتداخلة:

إعادة بناء الجهاز الدبلوماسي من حيث التكوين والرؤية والتمثيل.

بلورة سردية وطنية موحدة تُمثل الدولة الجديدة في الخارج.

الانفتاح المتوازن على المحاور الإقليمية والدولية دون ارتهان لأي منها.

تفعيل الحضور السوري في المنظمات الدولية كفاعل لا كمتهم أو مفعول به.

بناء تحالفات استراتيجية جديدة مع الدول التي تتقاطع مصالحها مع استقرار سوريا ونهضتها.

رابعًا: تحويل السياسة الخارجية إلى أداة سيادية

في النظام السابق، كانت السياسة الخارجية تُدار بمعزل عن إرادة المجتمع، وتُستخدم أداةً لتعزيز شرعية النظام لا شرعية الدولة.
أما في مشروع النهضة، فإن السياسة الخارجية تتحوّل إلى:

أداة للتكامل السيادي: تربط الداخل بالعالم، وتدافع عن السيادة السياسية والاقتصادية والمعنوية للدولة.

منصة للدفاع عن الحقوق الوطنية: بما في ذلك التحرر من الاحتلالات، واستعادة الموارد، والتصدي للتدخلات.

نافذة للدعم التنموي غير المشروط، ولتبادل الخبرات والتكنولوجيا والتعاون الإنساني والاقتصادي.

قناة لإعادة الاندماج في المنظومة الدولية وفق شروط نزيهة وواضحة، تحفظ الكرامة ولا تُساوم على الحقوق.

خامسًا: تحديات ومخاطر على طريق الاستقلال الدبلوماسي

لن يكون التحرك الدبلوماسي المستقل معزولًا عن التهديدات التالية:

الضغوط الدولية لإعادة تدوير النظام السابق عبر صفقات سياسية.

ابتزاز بعض الدول لسوريا الجديدة عبر شروط “الشرعية” أو “المساعدات“.

محاولات تفريغ التمثيل السياسي من مضمونه السيادي عبر أدوات دولية أو منظمات غير نزيهة.

الرهان الداخلي الخاطئ على قوى الخارج بدل بناء أوراق قوة وطنية.

لكن مشروع النهضة لا يواجه هذه التهديدات بالانسحاب، بل ببناء أدوات حقيقية للسياسة الخارجية، تُمكّن سوريا من الفعل لا التلقي، ومن المبادرة لا الاستجداء.

خاتمة الفصل

التحرك الدبلوماسي المستقل هو الترجمة الخارجية للسيادة الداخلية، وهو مقياسٌ فعليّ لمدى تحرر الدولة من منطق النظام، ولقدرتها على التعبير عن ذاتها ككيان سيادي فاعل.

إنه انتقال من مرحلة الصمت المدجّن إلى مرحلة الخطاب السيادي الواعي، ومن الحضور الصوري في المؤتمرات إلى الفعل الواقعي في الساحات الدولية.

وهكذا، تعود سوريا الجديدة إلى العالم لا بوصفها عبئًا أو أداة، بل بوصفها دولة تعرف نفسها، وتحمي مصالحها، وتحترم شركاءها، وتُقدّم مشروعًا سياسيًا يستحق الاعتراف.