web analytics
القسم الثاني عشر – الباب الثاني

الفصل الثالث العقيدة الدبلوماسية الجديدة

من التبعية إلى الاستقلال الفعلي

تمهيد:

في سياق التحوّل من دولة مأسورة إلى دولة مستقلة، تمثل العقيدة الدبلوماسية أحد أعمدة السيادة، وجزءًا لا يتجزأ من مشروع النهضة الشامل. فالسياسة الخارجية ليست حقلًا منفصلًا عن الداخل، بل هي تعبير مباشر عن طبيعة النظام السياسي وموقعه في العالم. ولهذا، لا يمكن بناء دولة ذات قرار إلا بإعادة صياغة عقيدتها الخارجية بما ينسجم مع مبادئ الاستقلال والتمثيل والندية.

ويقوم هذا الفصل على خمس أفكار مركزية تعالج تحوّل العقيدة الدبلوماسية من حالة التبعية إلى ممارسة فعلية للاستقلال السيادي:

أولا:  السياسة الخارجية وظيفة سيادية داخلية لا نشاط خارجي معزول

لم تكن السياسة الخارجية في سوريا سابقًا سوى أداة بيد السلطة، تُستخدم لحماية النظام، لا تمثيل الدولة.

أُفرغت السفارات من مضمونها التمثيلي، وتحولت إلى أذرع أمنية، تُدار خارج الأطر المؤسسية.

في الدولة الجديدة، يُعاد تعريف السياسة الخارجية باعتبارها جزءًا من منظومة الحكم، تُنتج من داخل المؤسسات، وتخضع للرقابة الدستورية، وتُبنى على التمثيل الشعبي لا على التوجيه الأمني.

التمثيل الدولي في هذه الحالة لا يكون امتيازًا سلطويًا، بل مسؤولية وطنية تعكس صوت الدولة الجديدة.

ثانيا:  من التبعية الهيكلية إلى الاستقلال الفعلي في صناعة القرار

لم تكن التبعية السياسية ناتجة عن اختيارات عاقلة، بل عن غياب الإرادة السيادية وهشاشة بنية اتخاذ القرار.

تم ربط مصير الدولة بتحالفات مرهونة، غابت عنها المصلحة الوطنية، وحضرت فيها ضرورة البقاء السلطوي.

الاستقلال الفعلي لا يتحقق بمجرد تغيير الخطاب، بل:

ببناء مؤسسات سياسية قادرة على اتخاذ القرار.

بامتلاك أدوات التفاوض الحرّ.

بتحييد الضغوط الخارجية دون الوقوع في العزلة.

التوازن هنا لا يعني الحياد المطلق، بل التموضع الواعي والمتحرر من الإملاء أو الاصطفاف الجبري.

ثالثا:  مركزية الداخل – السيادة الخارجية تنبع من شرعية داخلية

لا يمكن لدولة أن تمارس سياسة خارجية سيادية إن كانت تفتقد لمشروعية داخلية.

كانت السلطة تتحدث باسم الدولة دون تمثيل شعبي، ففقدت الثقة الدولية وأُقصيت من دوائر التأثير.

تُبنى العقيدة الدبلوماسية الجديدة على القاعدة التالية:

كل تمثيل خارجي يجب أن يكون امتدادًا لمؤسسات شرعية منتخبة أو خاضعة للرقابة.

الخط السياسي الخارجي يجب أن يندرج ضمن السياسة العامة، لا أن ينفصل عنها كحقل خاص.

العلاقات الدولية تُستخدم لخدمة الاقتصاد الوطني، وتعزيز التنمية، وحماية السيادة، لا كمسرح لتكريس الولاء.

رابعا: من التحالفات الجبرية إلى التموضع السيادي

التحالفات السابقة قامت على الانحياز القسري، لا على تقدير المصالح أو حسابات استراتيجية متزنة.

لم يكن الاصطفاف خيارًا حرًا، بل ضرورة سلطوية فرضتها الحاجة للدعم العسكري أو المالي.

اليوم، تُعيد العقيدة الجديدة رسم التموضع السوري في العالم وفق:

تجاوز منطق “مع أو ضد”، والانفتاح على العالم دون التبعية.

إعادة تعريف العلاقة مع المحاور الإقليمية والدولية ضمن معيار واحد: المصلحة العليا للدولة.

الحفاظ على شبكة علاقات متوازنة تُمكن سوريا من لعب دور فاعل دون خضوع لأي قطب.

التموضع السيادي لا يعني اللاانحياز السلبي، بل الانحياز الواعي لمصلحة الشعب السوري.

خامسا: إعادة بناء مركز القرار الخارجي – من الأجهزة إلى الدولة

في النظام السابق، كانت الأجهزة الأمنية هي من يُنتج القرار الخارجي ويتحكم به.

غابت المؤسسات السياسية عن إدارة العلاقات الدولية، وغابت معها الشفافية والمساءلة.

العقيدة الجديدة تقوم على تفكيك هذا النموذج عبر:

حصر صناعة القرار في وزارة الخارجية بصفتها هيئة سيادية تنفيذية خاضعة للمساءلة الدستورية.

تحويل البعثات الدبلوماسية إلى أدوات تمثيل حقيقي، تخدم المشروع الوطني، لا سلطة النظام.

فصل السياسي عن الأمني، وتحويل السياسة الخارجية إلى أداة للتكامل والتنمية والحضور الدولي.

بناء جهاز دبلوماسي وطني مؤهل، ينتمي لمشروع الدولة لا لمؤسسات السلطة القديمة.

خاتمة الفصل:

تُعيد العقيدة الدبلوماسية الجديدة تموضع سوريا في العالم لا بوصفها ساحة، بل كدولة ذات إرادة، قادرة على أن تقول:
لا حين يُطلب منها أن تخضع،
ونعم حين تقتضي مصلحتها الوطنية،
وصمتًا حين يكون الحياد ضرورة،
وصوتًا حين يتطلب الموقف مبادرة.

فلا سيادة دون استقلال القرار الخارجي،
ولا استقلال دون مؤسسات،
ولا مؤسسات دون وعي شعبي بالتمثيل،
ولا تمثيل دون دولة تُدرك من أين تبدأ، وإلى أين تنتمي.