web analytics
القسم الثاني عشر – الباب الأول

الفصل السادس الحياد النشط والانحياز الواعي

التموضع الذكي في عالم مضطرب

تمهيد:

في عالم مضطرب قائم على الاستقطاب، والانهيار الجزئي للمنظومة القانونية الدولية، وتراجع مفاهيم الاستقرار والقطبية الواحدة، لم يعد ممكنًا لدولة خارجة من حرب طويلة مثل سوريا أن تعتمد تموضعًا تقليديًا مبنيًا على الاصطفاف الكلّي أو الحياد المفرغ من المضمون.

لقد سقطت مقولات “عدم الانحياز” القديمة، كما سقطت معها محاور الحرب الباردة، ولم يبقَ اليوم سوى التموضع الذكي القائم على إدارة المصالح، وتكييف المبادئ، وحماية القرار الوطني دون الانغلاق أو الارتهان. ومن هنا، يُعاد في هذا الفصل تأسيس مفهوم الحياد والانحياز، ضمن منظومة دبلوماسية عقلانية ومرنة، تعكس حاجات سوريا الجديدة لا أهواء من حولها.

أولًا: إسقاط ثنائية “الانحياز–الحياد” بوصفها معادلة زائفة

لا يمكن للدولة الجديدة أن تتعامل مع التموقع الدولي عبر معادلة صفرية تختزل الخيارات في:

إما الانخراط الكلي في محور دولي.

أو الانسحاب الكامل تحت لافتة الحياد.

هذه الثنائية باتت متجاوزة لأنها:

لا تعكس تعقيد النظام الدولي الحالي.

لا تسمح بهامش من الحركة للدول المتوسطة أو الخارجة من النزاع.

تقيّد الإرادة السيادية وتُخضعها لحسابات الآخرين.

ثانيًا: الحياد النشط – حضور بلا انخراط أعمى

لا يعني الحياد أن تكون الدولة صامتة أو غائبة، بل أن تُدير علاقتها مع الأطراف المتنازعة دون الدخول في صراعاتها.

الحياد النشط يتجسد في:

الحفاظ على العلاقة المفتوحة مع الجميع دون تفضيل ثابت.

رفض المشاركة في الصراعات بالوكالة.

حماية الأرض السورية من التحول إلى ساحة نزاع بين الأطراف الدولية.

انتقاء المجالات التي يُبنى فيها التعاون مع كل طرف على حدة دون تعارض.

ثالثًا: الانحياز الواعي – قرار مصلحي سيادي لا استتباع سياسي

ترفض العقيدة الجديدة فكرة الحياد المطلق حين تصبح مكلفة للسيادة أو تهدد المصالح الوطنية.

الانحياز الواعي يقوم على:

الانحياز لمصالح الشعب لا لمصالح الحلفاء.

دعم قضايا عادلة أو شراكات بناءة دون الوقوع في التوظيف السياسي.

التمركز خلف القيم التي تتقاطع مع المصلحة، مثل: استقلال القرار، منع الاحتلال، دعم التنمية.

الانحياز هنا يكون ظرفيًا، مشروطًا، مدروسًا، غير مُستدام إلا بمقدار ما يخدم التوازن الاستراتيجي للدولة.

رابعًا: التموضع الذكي – صياغة شبكة علاقات مرنة متعددة المستويات

يتطلب التموضع الذكي في عالم ما بعد الاستقطاب أدوات متعددة، من أبرزها:

قراءة دقيقة لموازين القوى وتحولاتها.

بناء علاقات متوازية لا متناقضة مع عدة أطراف (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، الاتحاد الأوروبي، الدول العربية…).

توزيع الثقل الاستراتيجي وفق القطاعات: شراكات اقتصادية مع طرف، أمنية مع آخر، ثقافية مع ثالث.

الحفاظ على استقلال القرار النهائي وعدم منح أي طرف القدرة على الاعتراض الداخلي أو الإملاء.

خامسًا: تحويل التموضع إلى سياسة لا إلى رد فعل

كانت السياسة الخارجية السورية سابقًا تُبنى على ردود الفعل: ضد الغرب، مع الشرق، ضد الخليج، مع إيران…

في الدولة الجديدة، يجب أن يُعاد التموضع بوصفه:

خيارًا استباقيًا يُبنى على رؤية طويلة المدى.

إستراتيجية استثمار لا إستراتيجية دفاع.

أداةً لحماية الداخل لا مسرحًا لتفريغ تناقضات الخارج.

التموضع يصبح بهذا أداة سيادية قائمة على الفعل الواعي، وليس تكرارًا لتجارب الاصطفاف السابقة.

سادسًا: موازنة التموضع الخارجي مع التماسك الداخلي

يجب ألا يُبنى التموضع الدولي على حساب الانسجام الداخلي، كما حدث سابقًا حين خاضت سوريا تحالفات أثارت صدامًا داخليًا أو عزلت مكونات منها.

التموضع الذكي يتطلب:

التوافق بين التوجه الخارجي والخطاب الوطني الداخلي.

منع استخدام الاصطفاف الدولي كمصدر للشرعية الداخلية.

مراعاة الحساسيات السياسية والديموغرافية للمجتمع عند بناء التحالفات.

خاتمة الفصل:

في عالم بلا ثوابت، لا يُقاس موقف الدولة بمقدار حيادها أو انحيازها، بل بمقدار قدرتها على إدارة التموضع بذكاء.
والدولة السورية الجديدة لا تبحث عن موقع خلف طرف دولي، بل عن موقع على طاولة السيادة.
وما بين الحياد النشط والانحياز الواعي، تُعاد صياغة العلاقة مع العالم وفق مبدأٍ بسيط وواضح:
نحن لا نقف ضد أحد، لكننا لن نقف إلا مع أنفسنا.