web analytics
القسم الثاني عشر – الباب الأول

الفصل السابع هندسة العلاقات الدولية لسوريا

ما بعد الاستبداد بين السيادة والانخراط الذكي

مدخل تأسيسي

عاشت سوريا لعقود طويلة تحت مظلة سياسة خارجية انكفائية تارة، وابتزازية تارة أخرى، رهنت السيادة الوطنية للمحاور الإقليمية والدولية، وتاجرت بالثوابت القومية كغطاء لحكم استبدادي لا يملك رؤية حقيقية للعالم.

وفي ظل هذا التاريخ الثقيل، فإن مشروع النهضة السورية ما بعد الاستبداد لا يمكن أن ينهض بدون إعادة بناء منظومة العلاقات الدولية لسوريا على أسس جديدة: تستعيد السيادة، وتفعّل الانخراط الإيجابي، وتؤسس لشراكات قائمة على المصالح لا الولاءات، وعلى القانون لا على الفوضى، وعلى التمثيل الوطني الحقيقي لا على احتكار القرار في يد سلطة متهالكة.

أولا: من القطيعة إلى الانخراط السيادي

التحول الذي نطمح إليه لا يعني ببساطة الانتقال من عزلة إلى انفتاح، بل من ارتهان إلى استقلال. وهذا يتطلب:

استعادة القرار السيادي السوري بالكامل من يد القوى الأجنبية التي هيمنت على السياسة الخارجية.

إعادة تعريف موقع سوريا في النظام الدولي كفاعل سيادي، لا مجرد ساحة للصراعات الإقليمية والدولية.

رسم سياسة خارجية متكاملة تعبّر عن هوية الدولة الجديدة وتخدم مشروع النهوض الوطني.

ثانياً: المبادئ المؤسسة للعلاقات الدولية السورية

مبدأ السيادة الكاملة: رفض أي تدخل أجنبي في الشؤون السورية تحت أي مسمى، واعتبار القرار السياسي والدبلوماسي مستقلًا وخاضعًا فقط للمصلحة الوطنية.

مبدأ الانخراط الذكي: لا حياد سلبي ولا تبعية عمياء، بل سياسة خارجية مرنة، نشطة، مبادرة، تعرف متى تنفتح ومتى تتريّث، ومتى تتعاون ومتى تتصدى.

مبدأ التوازن الإيجابي: إقامة علاقات متوازنة مع مختلف القوى الكبرى والإقليمية، دون الانخراط في محاور أو صراعات تضعف تموضع سوريا.

مبدأ الشرعية والقانون الدولي: الالتزام بالمواثيق الدولية وحقوق الإنسان والمعاهدات التي لا تتناقض مع سيادة الدولة الجديدة أو كرامة شعبها.

مبدأ المصالح الاستراتيجية: تحديد بوصلة العلاقات الدولية بناء على المصلحة السورية العليا، سواء في الأمن أو الاقتصاد أو السياسة.

ثالثاً: المحاور الجغرافية–السياسية للعلاقات الدولية

  1. العلاقات مع الدول الكبرى

الولايات المتحدة الأمريكية

تمثل شريكًا استراتيجيًا في قضايا مكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار، واستقرار الإقليم.

العلاقة يجب أن تُبنى على وضوح سياسي، ومصالح مشتركة، وتنسيق في ملفات حساسة مثل شرق الفرات، والأمن الإقليمي.

نهدف إلى شراكة لا وصاية، وتحالف لا ارتهان.

الاتحاد الأوروبي

شريك اقتصادي وتنموي وثقافي محتمل، خصوصًا في ملف اللاجئين، والحوكمة الرشيدة، وحقوق الإنسان.

يجب فتح قنوات حوار فعالة مع بروكسل والعواصم الأوروبية الكبرى (باريس، برلين، روما، مدريد).

إمكانية توقيع اتفاقيات شراكة أورومتوسطية جديدة، تتجاوز المقاربات الأمنية الضيقة إلى شراكات تنموية واقتصادية.

روسيا والصين

ضرورة التعامل ببراغماتية مع روسيا، التي فرضت حضورًا عسكريًا وسياسيًا في سوريا، مع التأكيد على رفض أي وجود دائم يهدد السيادة الوطنية.

الصين شريك اقتصادي محتمل ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ويمكن توظيف هذه العلاقة في مشاريع البنية التحتية والطاقة، مع تأكيد الاستقلال السياسي.

  1. العلاقات الإقليمية

تركيا

علاقات متوترة ومركبة، لكنها استراتيجية جغرافيًا.

لا بد من معالجة ملف الاحتلال التركي لبعض المناطق، وفتح حوار أمني–سياسي مشروط، يفضي إلى الانسحاب، وضمان الاستقرار الحدودي، وتصفية ملف الجماعات المتطرفة.

التوجه نحو تطبيع مشروط يقوم على احترام السيادة، والتبادل الاقتصادي المتكافئ.

إيران

العلاقة يجب أن تُفكك من منطق التبعية الطائفية أو التحالف العقائدي.

يجب إنهاء التغلغل العسكري والأمني الإيراني، مع الحفاظ على قنوات دبلوماسية غير عدائية.

التعامل مع إيران كدولة إقليمية لا كقوة وصاية.

الخليج العربي

بناء شراكات أمنية–اقتصادية طويلة الأمد مع السعودية، الإمارات، قطر، والكويت.

فتح آفاق التعاون في ملفات الطاقة، الإعمار، والمصارف، مع ضمان استقلال القرار السوري.

التعاطي مع دول الخليج باعتبارها رافعة اقتصادية لا قوة تدخل سياسي.

الأردن والعراق ولبنان

التنسيق الأمني والاقتصادي أمر لا بد منه، خصوصًا في ملفات اللاجئين، التهريب، والمخدرات.

إعادة هندسة المعابر والحدود لتكون أدوات تعاون لا تهريب أو توتر.

ضرورة فصل العلاقة مع لبنان عن الميليشيات العابرة للحدود، وبناء سياسة لبنانية–سورية تقوم على التكافؤ.

رابعًا: البُعد المؤسسي للسياسة الخارجية

بناء وزارة خارجية احترافية: تعتمد الكفاءة والتمثيل الحقيقي لا التعيينات الأمنية.

تأهيل الدبلوماسيين الجدد: من خلال برامج تدريب صارمة على القانون الدولي، ومهارات التفاوض، وأخلاقيات العمل الدبلوماسي.

إعادة افتتاح السفارات والبعثات الخارجية: مع التركيز على مراكز الثقل الدولية والإقليمية.

تفعيل دور الجاليات السورية: باعتبارها جسورًا ثقافية واقتصادية في مختلف العواصم.

خامسًا: الدبلوماسية الجديدة – أدوات وأولويات

الدبلوماسية الوقائية: التحرك مبكرًا لحل الأزمات أو منعها.

الدبلوماسية الاقتصادية: جعل التجارة والاستثمار رافعة للسياسة الخارجية.

الدبلوماسية الإنسانية: لعب دور أخلاقي وإنساني في قضايا اللاجئين، والمعتقلين، والعدالة الانتقالية.

الدبلوماسية الرقمية والإعلامية: تحسين صورة سوريا الجديدة في وسائل الإعلام الدولية ومنصات التواصل، عبر أدوات احترافية ولغة استراتيجية.

سادسًا: المخاطر التي يجب تجنبها

التورط في صراعات المحاور: خصوصًا بين الغرب والشرق، أو بين الخليج وإيران، أو بين تركيا والقوى الكردية.

الارتهان لمساعدات مشروطة بسياسيات تُملى على الدولة الجديدة.

استنساخ سياسة النظام السابق القائم على التهديد والابتزاز.

خاتمة الفصل

السياسة الخارجية ليست ترفًا في مشروع النهضة، بل هي جزء من الأمن الوطني، ومن البنية المؤسسية للدولة السورية الجديدة.

وهندستها تتطلب وعيًا عميقًا بأن سوريا ليست ساحة، ولا تابعًا، ولا جائزة لصراعات الآخرين، بل دولة فاعلة، ذات سيادة، ومنفتحة، تتقن لعبة المصالح، وتحترم القانون، وتحمل مشروعًا وطنيًا يتكامل مع العالم، دون أن يُختطف أو يُذلّ.
إنها سوريا الحرة، تُعيد رسم موقعها في خارطة العالم، من جديد… وبشرف.