القسم الثاني عشر – الباب الثاني
الفصل الثامن هندسة العلاقات السورية–الأمريكية
مقاربة سيادية لعلاقة معقدة
تمهيد
من بين جميع العلاقات الخارجية التي ستواجه سوريا الجديدة، تبدو العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر تعقيدًا وإشكالية.
فهي علاقة محمّلة بإرث تاريخي ثقيل من العداء، وسوء الفهم، والتجاذبات الإقليمية، والتحولات الجيوسياسية العميقة.
غير أن بناء الدولة السورية الحديثة يستلزم إعادة تعريف هذه العلاقة لا على أسس الانفعال أو الاستتباع، بل على قاعدة السيادة الوطنية والحسابات الاستراتيجية الباردة.
فهل يمكن لسوريا أن تبني مع أمريكا علاقة واقعية، تحافظ فيها على استقلالها، دون أن تتحول إلى تابع؟ وهل يمكن أن تنتزع لنفسها مساحة مناورة في لعبة كبرى تحكمها موازين قوى قاسية؟
أولًا: تفكيك إرث العلاقة السابقة
فترة الحرب الباردة وما بعدها
اتسمت العلاقة السورية–الأمريكية بالعداء المفتوح منذ ستينات القرن العشرين، مع تموضع سوريا في المعسكر السوفيتي.
تعززت هذه القطيعة بسبب الموقف السوري من إسرائيل ودعم قوى المقاومة، مما جعل واشنطن ترى في سوريا عقبة استراتيجية.
محطات التوتر والانفراج المؤقت
محاولات التقارب خلال مؤتمر مدريد (1991)، ومفاوضات السلام السورية–الإسرائيلية برعاية أمريكية، لم تغير جذريًا من طبيعة العلاقة.
احتلال العراق 2003 زاد حدة المواجهة، مع اتهام واشنطن لدمشق بدعم المقاومة العراقية.
مرحلة ما بعد 2011
دعم أمريكي محدود للمعارضة السورية، مع تركيز أساسي على محاربة داعش والنصرة.
ازدواجية سياسية أمريكية: رفض إسقاط النظام بشكل حاسم، والاعتماد على الأكراد كحلفاء محليين، مما زاد فجوة انعدام الثقة مع السوريين عمومًا.
الإرث السميك للعقوبات
سلسلة من العقوبات الاقتصادية والسياسية على النظام السوري، والتي أثرت بصورة غير مباشرة على البنية المجتمعية والاقتصادية السورية عمومًا.
ثانيًا: محددات بناء العلاقة الجديدة
الاعتراف الواقعي بالثقل الأمريكي
لا يمكن لسوريا تجاهل مكانة الولايات المتحدة كلاعب عالمي مركزي.
لكن الاعتراف بالثقل لا يعني الخضوع، بل يستدعي تطوير مقاربة عقلانية للتعامل مع أمريكا كجزء من معادلة المصالح وليس كمركز أو مرجعية.
السيادة أولا
كل علاقة مع الولايات المتحدة يجب أن تنطلق من مبدأ احترام السيادة السورية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية.
ترسيم حدود المصالح المشتركة
التعاون في مكافحة الإرهاب، إعادة الإعمار، الأمن الإقليمي، مواجهة تهديدات عدم الاستقرار، هي ملفات قابلة لبناء أرضيات مشتركة دون الوقوع في التبعية.
موازنة العلاقة ضمن شبكة تحالفات أوسع
العلاقة مع أمريكا يجب ألا تكون معزولة عن علاقات سوريا مع أوروبا، وروسيا، والصين، وآسيا، والعالم العربي، كي لا تتحول إلى علاقة اختلالية تفضي إلى الارتهان.
ثالثًا: أطر التعامل المقترحة
مقاربة الحوار الانتقائي المدروس
اعتماد سياسة الحوار الانتقائي مع واشنطن حول قضايا محددة:
مكافحة الإرهاب العابر للحدود.
دعم جهود العودة الطوعية للاجئين.
تخفيف العقوبات مقابل إصلاحات سياسية واقتصادية مشروطة ومراقبة التنفيذ دوليًا.
تفعيل القنوات غير الرسمية
بناء علاقات مع مراكز الأبحاث، المؤسسات الأكاديمية، جماعات الضغط الأمريكية، الجاليات العربية–السورية المؤثرة في الولايات المتحدة.
خطاب وطني–استراتيجي موجه للرأي العام الأمريكي
تطوير خطاب إعلامي باللغة الإنجليزية، يشرح أهداف النهضة السورية، ويكشف زيف الصور النمطية التي رسختها الدعاية المضادة خلال العقود الماضية.
مبدأ المعاملة بالمثل
رفض تقديم تنازلات مجانية، ومطالبة الولايات المتحدة بمعاملة سوريا كدولة ذات سيادة تستحق الاحترام المتبادل.
فصل الملفات وعدم الخلط بينها
التعامل مع كل ملف أمريكي (الإرهاب، العقوبات، الوجود العسكري، إعادة الإعمار) بشكل منفصل دون السماح بابتزاز سوريا عبر ربط الملفات بطريقة تخدم الضغط السياسي.
رابعًا: التحديات المتوقعة وكيفية إدارتها
الضغط الإسرائيلي
إدراك أن اللوبي الإسرائيلي سيحاول دائمًا عرقلة أي تقارب سوري–أمريكي.
الحل: صياغة علاقة أمريكية–سورية مستقلة عن البُعد الإسرائيلي، مع استعداد لمفاوضات غير مباشرة مدروسة حول قضايا الإقليم.
التغيرات السياسية الأمريكية الداخلية
تذبذب السياسة الخارجية الأمريكية بسبب الانتخابات، الانقسامات الحزبية، والتغيرات الإيديولوجية.
الحل: بناء علاقات مع مؤسسات الدولة العميقة (الكونغرس، البنتاغون، مراكز الأبحاث)، وليس فقط مع الإدارة الحالية.
ملف العقوبات الثقيلة
تقديم خطة إصلاح وطنية واقعية قابلة للرصد، للتفاوض حول تخفيف تدريجي للعقوبات مقابل التقدم المحسوس في مجالات الحكم الرشيد، مكافحة الفساد، حقوق الإنسان.
الوجود العسكري الأمريكي شرق الفرات
فتح مفاوضات مدروسة وغير استعجالية تهدف إلى إنهاء الوجود العسكري الأمريكي بطريقة تحفظ ماء وجه الطرفين وتضمن وحدة الأراضي السورية.
خامسًا: الرؤية النهائية للعلاقة السورية–الأمريكية
علاقة تحكمها السيادة أولًا، والمصالح المشتركة ثانيًا، والواقعية السياسية ثالثًا.
علاقة تفتح آفاقًا للتعاون المدروس، وتمنع التبعية، وتستثمر التناقضات لصالح استقلال القرار السوري.
علاقة تضع سوريا ضمن خارطة النظام العالمي الجديد كدولة مستقلة تتقن إدارة توازناتها بعقل بارد وإرادة ثابتة.
خاتمة
العلاقة مع الولايات المتحدة ليست قدرًا مقدرًا بالعداء أو بالتبعية.
بل هي ميدان معقد لصراع الإرادات والمصالح.
وسوريا الجديدة — الدولة التي تنشد النهضة والسيادة — لا تهرب من هذا الميدان ولا تنخرط فيه كأداة.
بل تقتحمه بعقل استراتيجي يرسم مصالحها الوطنية بوضوح، ويبني الجسور حين تنفع، ويرفض الإملاءات حين تضر، ويدرك أن الاستقلال الحقيقي لا يعني العزلة، ولا الخضوع، بل يعني القدرة على المناورة الذكية داخل أكثر الساحات تعقيدًا.