القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل السابع والعشرون هندسة استعادة وحدة الأرض والسيادة
عبر الدبلوماسية الاستراتيجية
مدخل تأسيسي
لا تكتمل معادلة بناء الدولة السورية الجديدة إلا باستعادة وحدة الأرض والسيادة الوطنية بشكل فعلي، لا شكلي.
وهذه الاستعادة، في واقع ما بعد الحرب، تتجاوز المعادلة العسكرية أو الأمنية إلى حقل بالغ التعقيد: الدبلوماسية الاستراتيجية.
فقد تفرض الخرائط الدولية وشبكات المصالح والإرادات الكبرى على سوريا أن تستعيد سيادتها عبر مسار طويل ومعقد من التفاوض، والضغط، وإدارة العلاقات، مع المحافظة على ثوابتها الوطنية، دون أن تتحول إلى رهينة أو تابع لأي قوة أجنبية.
هنا بالضبط يتجلى دور “هندسة” السياسة الخارجية كأداة فاعلة في تحقيق الوحدة الوطنية عبر أدوات القوة الناعمة والصلبة معًا.
مفهوم “استعادة السيادة” في السياق السوري
في الحالة السورية، لا تعني استعادة السيادة مجرد إخراج القوات الأجنبية أو إلغاء الكيانات الموازية، بل تشمل:
استعادة السيطرة الفعلية للدولة الوطنية على كامل الجغرافيا السورية دون استثناء.
استعادة القرار السياسي الحر دون وصاية خارجية مباشرة أو غير مباشرة.
تفكيك البنى الميليشياوية والمناطقية التي نشأت تحت غطاء التدخلات الأجنبية.
إعادة دمج المناطق المستعادة ضمن منظومة الدولة الواحدة على أسس عدالة، ومشاركة سياسية، وتنمية متوازنة.
وهذا يتطلب استراتيجية مركبة لا تقتصر على الخطاب الوطني، بل تشمل منظومات تفاوضية ودبلوماسية متكاملة تحشد القوة المشروعة على المستويين الإقليمي والدولي.
المبادئ الأساسية للدبلوماسية الاستراتيجية في استعادة السيادة
لإنجاح هذا المسار، لا بد أن تقوم السياسة الخارجية السورية الجديدة على المبادئ التالية:
مبدأ الوطنية الصارمة: لا تفاوض على وحدة الأرض ولا على الهوية الوطنية.
مبدأ تعددية القنوات: استخدام كل القنوات الرسمية، وغير الرسمية، الدبلوماسية والشعبية، لتحشيد الدعم وإضعاف المشاريع التقسيمية.
مبدأ الواقعية المرنة: التعامل مع الوقائع الدولية بإدراك موازين القوى دون أن يعني ذلك التسليم بها.
مبدأ تصعيد الشرعية: ربط كل تحركات استعادة السيادة بالشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، مع تقديم المشروع الوطني السوري كخيار شرعي وعادل.
مبدأ إدارة الزمن: اعتماد استراتيجية النفس الطويل، حيث تُبنى المكاسب خطوة خطوة، مع عدم السماح بتكريس الوقائع الانفصالية مهما طال الزمن.
مبدأ توازن المصالح: الانفتاح التكتيكي المدروس على القوى الفاعلة، بحيث يكون لكل شريك مصلحة مشروعة بعودة وحدة سوريا، دون السماح بابتزاز الدولة الوطنية أو خرق سيادتها.
المحاور العملية لهندسة الاستعادة عبر الدبلوماسية
أولًا: بناء خطاب وطني–دولي متماسك
صياغة خطاب سياسي خارجي يعتمد على الثوابت الوطنية، لكنه يخاطب العالم بلغة مفهومة دوليًا: لغة القانون الدولي، حقوق الشعوب، ميثاق الأمم المتحدة.
تجنب الخطاب العاطفي أو الشعبوي الذي يضعف القضية السورية على الساحة الدولية.
ثانيًا: صياغة رؤية متكاملة لملفات الاحتلال والنفوذ الأجنبي
وضع خطط دبلوماسية متخصصة للتعامل مع كل حالة احتلال أو نفوذ أجنبي على حدة (الوجود الأميركي، التركي، الإيراني، الإسرائيلي…).
عدم الخلط بين الملفات، بل إدارتها بواقعية تفرض الأولويات: مثلاً البدء بمناطق النفوذ التركي لأنها الأكثر احتمالية للنجاح عبر التفاوض الإقليمي.
ثالثًا: إدارة التحالفات الإقليمية والدولية بذكاء
تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول العربية الصديقة.
بناء تحالفات ذكية مع قوى دولية لا تحمل مشاريع هيمنة، أو على الأقل يمكن تحييد نواياها.
تطوير علاقات مصلحية–براغماتية مع قوى كبرى (كالصين وروسيا والهند) بما يخفف الضغط الغربي دون الارتهان الكامل لأي طرف.
رابعًا: هندسة التفاوض حول الملفات المعقدة
تأسيس لجان دبلوماسية متخصصة لكل ملف سيادي (مثلاً: لجنة الجولان المحتل، لجنة الشمال الشرقي، لجنة العلاقات مع القوى الكردية، لجنة استعادة السيطرة على المناطق الحدودية…).
وضع استراتيجيات متعددة السيناريوهات لكل مسار تفاوضي: خطة (أ) وخطة (ب) وخطة (ج)، حسب تطور الأوضاع.
خامسًا: استخدام القانون الدولي كأداة دعم
اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، وكل الهيئات الدولية، لإبراز مشروعية الحقوق السورية وفضح الانتهاكات.
سادسًا: تفعيل الدبلوماسية الشعبية والموازية
دعم المبادرات الشعبية السورية في الخارج لتعزيز قضية استعادة السيادة أمام الرأي العام الدولي.
استغلال الأدوات الإعلامية والحقوقية والبحثية لكسب معركة الوعي والموقف الأخلاقي عالميًا.
التحديات المتوقعة
تفكيك تحالفات الميليشيات المرتبطة بالخارج دون جر الدولة إلى حروب استنزافية جديدة.
مقاومة مشاريع التقسيم التي قد تتخفى تحت عناوين “اللامركزية الفيدرالية” المفخخة أو “الإدارات الذاتية” الانفصالية.
تجاوز الصراع الأميركي–الروسي–الإيراني–التركي على الساحة السورية دون السقوط في فخ الاستقطاب أو الارتهان.
حماية الداخل السوري من ارتدادات النزاعات الإقليمية والدولية.
الخاتمة
استعادة وحدة الأرض والسيادة السورية ليست هدفًا حالمًا ولا مهمة مستحيلة، لكنها معركة كبرى تُخاض بسلاح الدبلوماسية الاستراتيجية بنفس التصميم والإصرار الذي تُخاض به معارك التحرير العسكري والسياسي.
ومن يفهم الدبلوماسية كفنٍّ للواقع والقوة لا كخضوع، يستطيع أن يُعيد لسوريا حضورها الحر الكامل على أرضها وفي العالم.