القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل الثامن والعشرون هندسة العلاقات مع العالم العربي
بين العمق والانفتاح
مدخل تأسيسي
يشكل العالم العربي الامتداد الطبيعي والجغرافي والثقافي لسوريا، وهو الحاضن التاريخي لهويتها ومجالها الحيوي الاستراتيجي.
لكن هذا الارتباط العضوي، الذي كان يفترض أن يكون مصدر قوة، تعرض عبر العقود الماضية إلى تشويه وتخريب نتيجة الاستبداد الداخلي، والتوظيف الإيديولوجي الفارغ، والتورط في محاور إقليمية ودولية أضعفت كل من سوريا والعالم العربي معًا.
ومن هنا، فإن هندسة علاقات سوريا الجديدة مع محيطها العربي يجب أن تقوم على قواعد عقلانية وعميقة، تصحح مسار العلاقة على أساس المصالح المتبادلة، والهوية الجامعة، دون الوقوع في فخ التبعية أو القطيعة، بحيث تكون هذه العلاقات ركيزة أساسية في مشروع النهضة الوطني.
أهمية إعادة بناء العلاقات العربية
الهوية الحضارية: العالم العربي يشكل الحاضنة الثقافية واللغوية والدينية الأساسية لسوريا، وأي قطيعة معه تمثل قطيعة مع الذات.
الدعم السياسي: تحقيق اعتراف عربي واسع بالحكومة الوطنية السورية الجديدة يعزز شرعيتها، ويمهد الطريق لاعتراف دولي أوسع.
التكامل الاقتصادي: السوق العربية تمثل مجالًا استراتيجيًا لإعادة بناء الاقتصاد السوري المنهار، عبر التجارة والاستثمار والمشاريع التنموية المشتركة.
الأمن الإقليمي: لا يمكن ضمان أمن سوريا دون تعاون وثيق مع الدول العربية في قضايا الإرهاب، والمخدرات، واللاجئين، وإعادة الإعمار.
المبادئ الحاكمة لهندسة العلاقات العربية
مبدأ السيادة المتبادلة: التعامل مع كل دولة عربية بنديّة واحترام متبادل، دون تدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف.
مبدأ المصالح المشتركة: بناء العلاقات ليس على أساس العواطف أو الشعارات، بل على قاعدة المصالح الحقيقية المتبادلة.
مبدأ العمق والانفتاح: تعزيز الارتباط بالفضاء العربي كامتداد طبيعي، مع الانفتاح على التعاون الدولي دون عزلة.
مبدأ المرونة الذكية: إدارة الخلافات بحكمة، وعدم السماح للخلافات السياسية أن تفسد مجالات التعاون الأخرى.
مبدأ الحياد الإيجابي: النأي عن سياسة المحاور والصراعات العربية–العربية، والسعي إلى لعب دور جسري لا اصطفافي.
المحاور العملية لإعادة بناء العلاقات مع العالم العربي
أولًا: استعادة الحضور السوري في المنظمات العربية
العودة الفعالة إلى جامعة الدول العربية كمكوّن فاعل، ليس بهدف الحضور الشكلي بل لاستعادة موقع سوريا كمؤسس وكشريك أساسي في صياغة السياسات الإقليمية.
تطوير العلاقات مع مجالس التعاون العربية الأخرى: مجلس التعاون الخليجي، اتحاد المغرب العربي، وغيرها.
ثانيًا: الانفتاح السياسي المدروس
فتح قنوات تواصل دبلوماسي رفيع مع العواصم العربية الكبرى: الرياض، القاهرة، أبو ظبي، الدوحة، عمان، بغداد، الرباط.
تقديم رؤية سورية جديدة تقوم على الشفافية والمصالح المتبادلة لا على الخطابات الإيديولوجية القديمة.
ثالثًا: التعاون الاقتصادي كرافعة استراتيجية
توقيع اتفاقيات شراكة اقتصادية حرة مع الدول العربية لتعزيز التبادل التجاري والاستثماري.
تشجيع الاستثمارات العربية في مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية السورية.
الاستفادة من الخبرات العربية في مجالات التكنولوجيا، الإدارة، والطاقة المتجددة لدعم عملية النهوض الوطني.
رابعًا: التكامل الأمني ومكافحة التهديدات المشتركة
التعاون الأمني مع الأجهزة العربية المختصة في مكافحة الإرهاب العابر للحدود.
التعاون في ملف مكافحة المخدرات العابرة، خصوصًا أن سوريا تحولت في مرحلة الحرب إلى ساحة لهذه الجرائم المنظمة.
التنسيق الاستخباراتي لضمان عدم تحوّل الأراضي السورية إلى مصدر تهديد لأي بلد عربي.
خامسًا: إحياء الدور الثقافي السوري عربياً
إعادة تصدير الثقافة السورية كجزء من المشهد العربي، عبر دعم المبادرات الثقافية، والأعمال الفنية، والبرامج الأكاديمية المشتركة.
تطوير العلاقات الإعلامية الإيجابية مع وسائل الإعلام العربية الكبرى.
إطلاق برامج تبادل ثقافي وأكاديمي مع الجامعات والمراكز الفكرية العربية.
سادسًا: تعزيز الدبلوماسية الشعبية العربية–السورية
دعم زيارات النخب الفكرية، الاقتصادية، والدينية العربية إلى سوريا.
تنظيم مؤتمرات وندوات عربية–سورية لتعزيز الحوار المباشر وبناء جسور الثقة.
التحديات التي يجب التنبه لها
وجود حساسيات متراكمة: نتيجة مواقف النظام السوري السابق من بعض القضايا العربية، خصوصًا في الخليج ولبنان والعراق.
التنافس الإقليمي العربي: ضرورة إدارة العلاقة مع الأطراف العربية المختلفة دون الانزلاق إلى صراعات محاور.
الضغوط الدولية: بعض القوى الدولية قد تحاول عرقلة التقارب العربي–السوري للحفاظ على عزلة سوريا وإضعافها.
الخاتمة
هندسة العلاقات السورية مع العالم العربي ليست مجرد تصحيح خطأ الماضي، بل هي استثمار استراتيجي في المستقبل، يُعيد لسوريا عمقها الطبيعي، ويحمي وحدتها، ويعزز مشروع النهضة الذي يقوم على فهم متجدد للهُوية والانتماء.
فلا نهضة لسوريا بدون محيطها، ولا محيط عربي متماسك بدون سوريا، وبهذه الرؤية يجب أن تُصاغ السياسة الخارجية العربية–السورية في المرحلة الجديدة.