القسم الثالث عشر – الباب الأول
الفصل الأول السياسة الدستورية
من النصوص إلى الترسيم السيادي
مقدمة تمهيدية
ليس الدستور مجرد وثيقة مكتوبة تُعلن شكل الدولة، بل هو العقد التأسيسي الأعلى الذي يُحدّد ما إذا كانت الدولة قادرة على حماية إنسانها، وتنظيم سلطتها، وضمان وحدتها، أم أنها ستعيد إنتاج التسلّط والتذرر باسم القانون. في التجربة السورية، لم يكن العطب ناتجًا عن غياب الدساتير، بل عن غياب الصدق في صياغتها، وغياب الإرادة في تنفيذها، وغياب التوازن بين السلطة والشعب كمصدر للشرعية.
في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى الدستور كترتيب شكلي، بل كفعل سيادي مركزي يؤسّس لدولة جديدة ذات هوية واضحة، مبنية على القيم، وعلى العقد الاجتماعي الذي تمّ تحريره بإرادة حرّة من رحم الكارثة الوطنية. ومن هنا تبدأ السياسة الدستورية، لا بوصفها مسارًا قانونيًا فقط، بل كفعل تأسيسي يعيد رسم حدود الدولة، ويحدّد وظيفة السلطة، ويمنح السيادة معناها العميق: سيادة القانون، لا الأشخاص.
أولًا: تفكيك الأزمة الدستورية في سوريا
تاريخ سوريا السياسي حافل بالدساتير، لكن أغلبها لم يكن نتاج إرادة شعبية حرّة، بل أُنتج في غرف السلطة لضبط الإطار الشكلي للحكم، لا لضبط السلطة ذاتها. فدستور 1973 أعطى للرئيس صلاحيات مطلقة، وجعل حزب البعث قائدًا للدولة والمجتمع، بينما كان دستور 2012 استجابة تجميلية لمرحلة الانفجار، ولم يُغيّر في جوهر بنية الحكم.
النتيجة كانت أن الدستور لم يُمارس كعقد اجتماعي، بل كمجموعة نصوص تُنتهك باسم الضرورة، وتُعدّل باسم المصلحة، وتُعلّق باسم الأمن. وهكذا، تحوّلت السياسة الدستورية إلى أداة لاستدامة القمع، بدل أن تكون أداة لضمان الحق والشرعية.
ثانيًا: هدف السياسة الدستورية في مشروع النهضة
تهدف السياسة الدستورية هنا إلى ما يلي:
إعادة تعريف الدستور كعقد سيادي بين الدولة والمواطن، لا كترخيص للسلطة.
صياغة دستور يؤسس لسلطة محدودة، خاضعة للمساءلة، قائمة على الفصل بين السلطات.
ترسيخ مبادئ السيادة الشعبية، وتعددية التمثيل، والمواطنة الجامعة.
وضع ضمانات دستورية فعّالة تمنع الانقلابات التشريعية أو تمديد السلطة باسم الضرورة.
تحصين استقلال القضاء دستوريًا، لا تركه رهينة تأويلات السلطة التنفيذية.
بكلمات أخرى، فإن السياسة الدستورية تُراد لها أن تكون خط الدفاع الأول عن سيادة القانون، وأن تكون بمثابة “النص الأعلى” الذي لا تجرؤ السلطة على تجاوزه، مهما تعاظمت قوتها المؤقتة.
ثالثًا: عناصر التنفيذ الدستوري
لتحقيق هذه السياسة على أرض الواقع، تُقترح الخطوات التالية:
لجنة تأسيسية دستورية ذات شرعية وطنية، نابعة من الإرادة العامة، لا مفروضة من توافقات خارجية.
صياغة تشاركية مفتوحة، تراعي المكونات السورية كافة دون خضوع لمحاصصة إثنية أو مذهبية.
تبنّي مبادئ دستورية غير قابلة للتعديل، مثل مدنية الدولة، والمساواة التامة، وحرية الضمير، واستقلال القضاء، وتداول السلطة.
استفتاء حرّ ونزيه على الدستور، يكتسب فيه النص مشروعيته من الشعب، لا من صفقات السلطة.
إقرار آلية مراجعة دستورية دورية، بإشراف هيئة محايدة، لضمان تطوّر النص بما يخدم السيادة والعدالة.
ربط الدستور بالخطة الانتقالية والمؤسسات التنفيذية، بحيث لا يُفرغ النص من مضمونه كما حدث في التجارب السابقة.
رابعًا: التحديات المتوقعة
لكن هذه السياسة لن تُطبق في فراغ. ثمة تحديات بنيوية تقف في وجهها، منها:
التأثيرات الدولية، التي قد تسعى لفرض دساتير توافقية لا تعبّر عن السيادة الفعلية.
بقايا البنية السلطوية القديمة، التي قد تحاول عرقلة أي تحول حقيقي خوفًا من فقدان امتيازاتها.
الانقسامات المجتمعية، التي قد تُستخدم ذريعة لصياغات طائفية أو فدرالية انفصالية.
غياب الثقافة الدستورية لدى قطاعات واسعة من السوريين، نتيجة عقود من التجهيل القانوني المتعمّد.
ولهذا، لا تكفي الصياغة الجيدة، بل لا بد من حاضنة مجتمعية واعية، تقف خلف هذا الدستور وتدافع عنه باعتباره بوصلتها إلى الدولة السيادية.
خاتمة
إن السياسة الدستورية في مشروع النهضة ليست مجرد إجراء تأسيسي، بل هي لحظة سيادة. هي نقطة الانطلاق التي تُعلن ميلاد دولة جديدة، تتجاوز منطق “الدساتير الوظيفية” إلى منطق “الدستور السيادي”. ومن هنا يبدأ الفرق بين نظام يريد البقاء، ودولة تريد الحياة.