القسم الثالث عشر – الباب الثاني
الفصل العاشر سياسة مكافحة الفساد
من الرقابة الشكلية إلى الحوكمة الصارمة
مقدمة تمهيدية
في الدول الفاشلة، لا يُمارَس الفساد فقط من قبل فاسدين، بل يُنتج كمنهج حكم.
وحين تكون الدولة غنيمة، تصبح كل مؤسسة فيها وسيلة نهب، ويُستبدل القانون بالشبكة، والحق بالواسطة، والمصلحة العامة بالمكاسب الشخصية.
هذه لم تكن ظواهر طارئة في سوريا، بل كانت العمود الفقري للنظام السياسي–الاقتصادي الذي حكم البلاد لعقود.
كان الفساد هو “القانون الفعلي” الذي تُدار به الدولة، وكانت الرقابة مجرد مسرحية، والمحاسبة أداة انتقائية لتصفية الخصوم، لا لضمان النزاهة.
في مشروع النهضة، لا تُفهم مكافحة الفساد كحملة موسمية أو آلية دعائية، بل كمعركة سيادية حاسمة، تتطلب تفكيك البنية التي أنتجته، وإعادة تعريف علاقة الدولة بالمواطن، والمنصب بالمحاسبة، والثروة بالعدالة.
ولأن الفساد لا يسقط بالشعارات، بل بالأنظمة، فإن السياسة التي نقترحها تقوم على إعادة بناء الدولة حول مبدأ الحوكمة الصارمة، بحيث يكون الفساد مستحيلًا، لا مجرد مخالفًا.
أولًا: الفساد في سوريا – بنية لا مجرد سلوك
الفساد كنمط حكم:
النظام السابق لم “يتسامح” مع الفساد، بل قام عليه. فقد كان الفساد هو المقابل العملي للولاء السياسي والأمني.
تعميم الفساد بوصفه مشاركة جماعية في السلطة:
أُجبر الناس على الدخول في دوائر الفساد للبقاء: في التوظيف، والتسجيل، والتطبيب، والتعليم، والعدالة، وحتى في الخبز.
انهيار أجهزة الرقابة وتحويلها إلى أدوات ابتزاز:
أجهزة التفتيش والرقابة كانت خاضعة للسلطة التنفيذية أو الأمنية، وتُستخدم لمحاسبة غير المرغوب بهم، لا لضبط الأداء.
فوضى في التشريعات وضعف العقوبات:
كثرة القوانين وتناقضها، مما سهّل على الفاسدين الاحتيال، وغياب القوانين الرادعة ذات النفاذ الفعلي.
ثقافة عامة خانعة أو متواطئة:
في غياب البديل النزيه، بات المواطن مضطرًا لأن “يدفع” ليعيش، وصار “الفساد الصغير” وسيلة للبقاء في وجه “الفساد الكبير”.
ثانيًا: أهداف سياسة مكافحة الفساد في مشروع النهضة
تفكيك البنية المنتجة للفساد لا فقط مطاردة نتائجه.
تحويل مبدأ الشفافية من توصية إلى التزام قانوني.
فصل السلطة التنفيذية عن أجهزة الرقابة والمحاسبة.
ضمان استقلالية القضاء المالي والإداري.
إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر حق الوصول إلى المعلومات.
تحويل النزاهة من استثناء أخلاقي إلى شرط وظيفي.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
إنشاء “الهيئة الوطنية للحوكمة والمساءلة“:
هيئة مستقلة دستوريًا، غير خاضعة لأي سلطة تنفيذية أو أمنية، تتمتع بصلاحيات شاملة للرقابة، والمحاسبة، والتحقيق.
إطلاق “منصة الشفافية الوطنية“:
قاعدة بيانات رقمية علنية تنشر الموازنات، العقود الحكومية، الرواتب العليا، المناقصات، نتائج الرقابة، تقارير الأداء.
اعتماد نظام “التصريح المالي الشامل”:
إلزام كل مسؤول حكومي بتقديم كشف دوري علني بثرواته، وأصوله، وموارده، ومصادر دخله قبل وبعد شغله المنصب.
قانون لحماية المُبلّغين عن الفساد:
يوفّر حماية قانونية، وإجراءات أمنية، وتعويضات للمواطنين الذين يُساهمون في كشف وقائع فساد.
رقمنة الخدمات الحكومية بالكامل:
تحويل معظم الإجراءات الحكومية إلى منصات إلكترونية، للحد من الاحتكاك البشري وتقليل فرص الابتزاز أو المحسوبيات.
تأسيس “المحكمة الخاصة بالجرائم الاقتصادية والإدارية الكبرى”:
تُعالج ملفات الفساد الكبرى، وتصدر أحكامًا ملزمة، وتُعيد الأموال المنهوبة إلى الخزينة.
إصدار “قانون النزاهة في الوظيفة العامة“:
يربط الأهلية المهنية بالسجل السلوكي، ويمنع التوظيف لمن يثبت ضلوعه بأي شكل من الفساد أو التواطؤ مع الفاسدين.
رابعًا: التحديات والسياق المقاوم
بنية مصالح مترسخة:
الفاسدون ليسوا أفرادًا فقط، بل شبكات تقاطع بين السياسة، والاقتصاد، والأمن، والاحتكار.
ثقافة عامة ملوّثة ومُحبَطة:
اليأس من جدوى الإصلاح، أو فقدان الإيمان بأن المحاسبة يمكن أن تطال الكبار.
محاولات تسييس ملف الفساد:
تحويله إلى أداة انتقام سياسي، بدل أن يكون ملف مساءلة شفاف ومحايد.
ضعف القضاء والمؤسسات الرقابية الموروثة:
ما يفرض إصلاحًا جذريًا وليس ترقيعيًا.
خامسًا: من الحوكمة كإجراء إلى الحوكمة كقانون حياة
في مشروع النهضة، لا تُخاض معركة مكافحة الفساد كواجب خارجي أو شرط تمويلي، بل كمبدأ سيادي، ومفتاح ضروري لبناء الدولة الجديدة.
لا سيادة مع النهب، ولا عدالة مع المحسوبية، ولا تنمية مع الاحتكار، ولا أمن مع الابتزاز.
ولهذا، فإن “الحوكمة الصارمة” ليست خيارًا إداريًا، بل هي المعيار الأول لصلاحية الدولة. إما أن تكون الدولة قائمة على محاسبة شاملة، أو لا تكون دولة أصلًا.
خاتمة الفصل
الفساد ليس خطأً فرديًا، بل نظام حياة إذا لم يُكسر، أعاد تدوير كل نهوض إلى سقوط.
وفي سوريا، لا نهوض بلا محاسبة، ولا بناء بلا مساءلة.
إن الدولة التي نريدها ليست فقط دولة القانون، بل دولة الحق؛ ودولة الحق لا تكون إن لم يكن كل مسؤول فيها تحت رقابة صارمة، وكل مال فيها في خدمة الأمة، لا في جيوب من صادروا الوطن.