web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الثالث 

الفصل الحادي عشر السياسة الصحية

من الانهيار إلى منظومة رعاية شاملة

مقدمة تمهيدية

في أعماق كل دولة راشدة، توجد منظومة صحية تحمي الجسد وتُجسّد الكرامة.
فالصحة ليست فقط خدمة عامة، بل هي تعبير حاسم عن موقع الإنسان في أولويات الدولة.

وفي سوريا، كانت المنظومة الصحية أولى ضحايا الاستبداد، وأولى ضحايا الحرب، وأوضح دليل على انهيار العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة.

لقد انهار النظام الصحي السوري في مستوياته الثلاثة:

في البنية التحتية التي تآكلت أو تهدمت.

في الكوادر التي هاجرت أو أُهملت أو استُغلت.

وفي الثقة التي تفككت بين المواطن والمنشأة الطبية، بعدما أصبحت المراكز الصحية أدوات محسوبية، والدواء سلعة للابتزاز، والاستشفاء امتيازًا لمن يدفع أو يتوسّل.

في مشروع النهضة، لا تُفهم السياسة الصحية كمجرد تحسين خدمات أو ترميم مشافٍ، بل تُطرح كمنظومة سيادية متكاملة، تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والدولة، وتُعلي من قيمة الرعاية، لا كمساعدة، بل كحق أساسي لا يقبل التأجيل أو التمييز.

ولهذا، يبدأ إصلاح الصحة من استعادة المعنى: أن تعني الدولة أنها قادرة على أن تُشفي، لا أن تترك الإنسان يتألم حتى الموت.

أولًا: تشريح أزمة النظام الصحي السوري

انهيار البنية التحتية:

دُمرت مئات المراكز الصحية والمستشفيات خلال الحرب، وخرج جزء كبير من المنظومة عن الخدمة دون تعويض.

ضعف في شبكات الإمداد والتبريد والتعقيم والتجهيزات، وشح في الكهرباء والمياه النقية.

نزيف الكوادر الطبية:

آلاف الأطباء والممرضين هاجروا أو أُقصوا بسبب مواقفهم السياسية أو الظروف الأمنية والمعيشية، أو انخرطوا في أعمال غير صحية لتأمين لقمة العيش.

سقوط التأمين الصحي وغياب العدالة:

انعدمت مظلّة الرعاية الصحية العامة، واقتصر العلاج على من يملك المال أو النفوذ، فيما غابت الدولة عن الفئات الهشة.

انفجار السوق الدوائية والاحتكار:

تحوّلت الأدوية إلى بورصة فساد، وارتفعت أسعارها بشكل جنوني، مع تراجع في الجودة وتوقف الصناعة الوطنية.

تفكك التخطيط الصحي الوطني:

لا قواعد بيانات، لا خرائط صحية، لا أولويات واضحة، ولا رؤية متكاملة.

ثانيًا: أهداف السياسة الصحية في مشروع النهضة

إعادة بناء منظومة رعاية صحية شاملة ومجانية على مستوى أساسي.

ضمان العدالة في الوصول إلى الخدمات الطبية دون تمييز أو واسطة.

استعادة ثقة الكوادر الطبية، وضمان بيئة عمل آمنة ومحترمة ومنتجة.

إحياء الصناعة الدوائية الوطنية، وضمان الأمن الدوائي الاستراتيجي.

ربط الصحة بالتنمية، والتخطيط، والتعليم، والعدالة الاجتماعية.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إطلاق “البرنامج الوطني للرعاية الصحية الشاملة

خطة تمتد لعشر سنوات، تبدأ بإعادة تأهيل مراكز الرعاية الأولية في كل منطقة، ثم تتوسع إلى المشافي المتخصصة.

يُموّل من الميزانية العامة، وصندوق دعم صحي خاص، وشراكات مع منظمات دولية غير مشروطة.

إنشاء “الهيئة العامة للحوكمة الصحية

هيئة مستقلة تدير التخطيط الصحي، والرقابة، وضبط الجودة، وإصدار سياسات وطنية بناءً على بيانات ميدانية، بعيدًا عن الارتجال أو التسييس.

استعادة الكوادر الصحية الوطنية

برامج تحفيزية لعودة الأطباء والممرضين من الخارج، أو لإعادة توظيفهم محليًا ضمن شروط لائقة وأجور عادلة.

تدريب كوادر جديدة بالتوازي، وربط التعليم الطبي بخدمة مجتمعية مباشرة.

إصلاح المنظومة الدوائية

إعادة تفعيل المصانع الدوائية الوطنية، وتحديث معايير الإنتاج، وتشجيع الاستثمار في الصناعات البيولوجية.

ضبط الاستيراد، وإنشاء مرصد وطني للأسعار والجودة، ومكافحة الاحتكار والتهريب.

تطبيق نظام التأمين الصحي القاعدي العام

تغطية صحية أساسية لكل مواطن، تُمَوّل من الدولة، وتديرها مؤسسات رقابية مستقلة، وتشمل الأمراض المزمنة، الطوارئ، والصحة الإنجابية.

الانتقال إلى الطب المجتمعي الوقائي

حملات وقاية، وتثقيف صحي، وفحوصات مجانية دورية، وربط الصحة بالبيئة والغذاء والتعليم.

رابعًا: التحديات

نقص التمويل وارتفاع التكاليف، ما يستدعي سياسات تمويل ذكية ومشاركة دولية غير مشروطة.

شبكات الفساد داخل القطاع الصحي، والتي تعطل التوظيف العادل وشراء المستلزمات وتوزيع الدواء.

العقوبات وانهيار سلاسل التوريد، ما يفرض الابتكار في التموين المحلي، وبناء شراكات خارجية بديلة.

مقاومة المؤسسات القديمة التي فقدت مشروعيتها لكنها لم تفقد نفوذها.

خامسًا: الصحة كأداة سيادة وعدالة

في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى المستشفى كمبنى، ولا إلى الطبيب كمستخدم، ولا إلى الدواء كسلعة.
بل يُعاد تعريف النظام الصحي على أنه ركيزة من ركائز السيادة الفعلية، وأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

الصحة هي المكان الذي تُختبر فيه الدولة يوميًا: هل تقف إلى جانب الإنسان، أم تتركه يتألم وحده؟ هل تداويه، أم تساومه؟ هل تحميه، أم تبيعه؟

خاتمة الفصل

من دون منظومة صحية عادلة، لا معنى للدولة.
ومن دون كرامة المريض، لا قيمة للعلم، ولا للسلطة، ولا للقانون.

وفي سوريا، حيث المرضى يُهانون، والمستشفيات تُحتكر، والدواء يُهرّب، فإن أولى بوابات النهضة هي أن يشعر الإنسان، وهو على سرير المرض، أن دولته لم تتركه.

فحين تبدأ الدولة بالشفاء، يبدأ الوطن بالتعافي.