web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الثالث

الفصل الثاني عشر السياسة التعليمية

من التلقين إلى تكوين الإنسان

مقدمة تمهيدية

في لحظة السقوط الكبرى التي عاشتها سوريا، لم تكن المدارس والجامعات مجرد ضحايا جانبية، بل كانت في قلب الانهيار، لأنها كانت – قبل الحرب وخلالها – أدوات إنتاج الخضوع، لا منصّات بناء العقل، ومصانع ولاء، لا مشاتل حرية.
فمنذ عقود، لم يكن الهدف من التعليم في سوريا هو تكوين الإنسان الحر المنتج، بل ترويضه، ومسح فردانيته، وحشو ذهنه بمقولات عقائدية، أو تلقينه محفوظات لا علاقة لها بالحياة، ولا بالواقع، ولا بالمستقبل.

لقد بُني النظام التعليمي في سوريا على أربع دعائم مدمِّرة:

مركزية سلطوية خانقة تقرر مناهج البلاد من مكاتب الأمن والحزب.

أدلجة شاملة للتعليم تبدأ من الطفولة وتنتهي في الجامعة.

إهمال متعمد للبحث العلمي والإبداع لصالح حفظ الشعارات.

تفاوت طبقي ومناطقي حاد يفصل بين تعليم النخبة وتعليم الفقراء.

في مشروع النهضة، لا يُفهم التعليم كوظيفة حكومية أو بنية تقنية، بل يُعاد تعريفه من الجذر، باعتباره فعلًا سياديًا–تحرريًا–إنسانيًا، يهدف إلى تكوين مواطن مفكر، حر، منتج، مشارك، لا مجرد متلقٍ سلبي أو أداة طيّعة.
التعليم هو الفضاء الذي تُصنع فيه الهوية، وتُعاد فيه صياغة العقد بين الإنسان والمعرفة، والدولة والمستقبل.

أولًا: تشريح الأزمة التعليمية في سوريا

انهيار البنية التحتية التعليمية:

دمار آلاف المدارس، ونقص حاد في الكوادر، وغياب البيئة الآمنة للتعلّم.

مناهج ميتة وغير مرتبطة بالحياة:

تعتمد على الحفظ، وتُعادي التفكير النقدي، وتُقصي الإبداع والبحث.

هيمنة الدولة الأمنية على قطاع التعليم:

التدخل في التعيينات، والفصل التعسفي، وتسييس الجامعات، وإخضاع الطلاب والأساتذة لرقابة صارمة.

التفاوتات الجغرافية والاجتماعية:

حرمان الأرياف والمناطق المهمّشة من التعليم النوعي، مقابل تركّز الفرص في مدن السلطة.

تسليع التعليم العالي:

تفشي الجامعات الخاصة كوسائل للربح، دون معايير جودة حقيقية، وغياب ربط التعليم بسوق العمل أو التنمية الوطنية.

ثانيًا: أهداف السياسة التعليمية في مشروع النهضة

تحرير العملية التعليمية من هيمنة الدولة الأمنية والإيديولوجية.

إعادة صياغة مناهج وطنية حديثة تربط الإنسان بالواقع والقيم والمعرفة الحرة.

تحقيق العدالة التعليمية بين المناطق والمكونات.

إعادة ربط التعليم بالإنتاج، والاقتصاد، والمجتمع، والهوية.

تحويل المدرسة من مكان لتلقين السلطة إلى فضاء لبناء الذات والعقل السيادي.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إعداد “الميثاق التربوي الوطني:

وثيقة مرجعية تُحدد فلسفة التعليم، وتُعيد تعريف الغاية من العملية التعليمية، بما ينسجم مع العقد الاجتماعي الجديد.

تأسيس “المجلس الوطني للمناهج:

هيئة مستقلة من التربويين، والفلاسفة، والعلماء، والمفكرين، تُشرف على مراجعة شاملة لكل المناهج، وتُنتج محتوى تربويًا إنسانيًا، علميًا، ووطنيًا.

إصلاح شامل للبنية التحتية التعليمية:

ترميم المدارس، تجهيز الفصول، تأمين النقل، دعم الطلاب المحتاجين، وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومُحفّزة.

تحفيز الكوادر التربوية واستعادة الثقة بالمعلم:

أجور عادلة، تدريب مستمر، حماية قانونية، وتقدير اجتماعي بوصفه ركيزة تكوين الوعي.

ربط التعليم بسوق العمل والتنمية المحلية:

تطوير التعليم المهني، وبناء شراكات مع المؤسسات الصناعية والزراعية والتقنية، وتشجيع ريادة الأعمال الطلابية.

دمج القيم الإنسانية والسيادية في المناهج:

حرية الفكر، احترام التعدد، التفكير النقدي، الحقوق، المواطنة، اللغة، والتاريخ بمعناه التعددي والواقعي.

إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي:

استقلال الجامعات، دعم مراكز الأبحاث، توجيه التمويل العلمي نحو أولويات البلاد التنموية، وربط الجامعة بالمجتمع.

إلغاء كل مظاهر التسييس والتخويف من الجامعات والمدارس:

التعليم في مشروع النهضة فضاء حر، لا يُدار بالمخبرين، ولا تُفرض فيه شعارات، ولا يُفرز فيه الطلاب بناءً على خلفياتهم السياسية أو المذهبية.

رابعًا: التحديات والتحولات

ثقافة متراكمة من الاستلاب والخضوع في البيئة التعليمية.

بنية إدارية تقليدية مقاومة للتغيير الجذري.

ضعف في المحتوى العربي العلمي المعاصر، ما يستدعي استراتيجية ترجمة وتوطين معرفة.

انعدام الموارد في بعض المناطق المحرومة، ما يتطلب نماذج تعليم لا مركزي مرنة.

خامسًا: التعليم كفعل سيادة وتحرر

في مشروع النهضة، لا نُعلّم كي نحفظ السلطة، بل نُعلّم كي نُنتج مواطنًا قادرًا على مساءلتها.

المدرسة هنا ليست مكانًا لإنتاج موظف، بل فضاء لتكوين إنسان فاعل، حر، عارف، مسؤول، ومتجذّر في تاريخه دون أن يكون سجينًا له.

خاتمة الفصل

لقد آن لسوريا أن تخرج من عباءة التعليم القائم على الطاعة والتكرار، إلى فضاء تعليمي قائم على النقد، والإبداع، والمسؤولية.

في مشروع النهضة، نعيد للمعلّم مكانته، وللمدرسة وظيفتها، وللمعرفة قدسيتها.

ومن دون هذا التحول، لن تُبنى الدولة، ولن تُستعاد السيادة، لأن الإنسان الذي لا يعرف، لا يمكنه أن يختار، ولا أن يُقرر، ولا أن يصنع مصيره.