القسم الثالث عشر – الباب الرابع
الفصل السابع عشر السياسة الإعلامية
من البروباغندا إلى الإعلام السيادي
مقدمة تمهيدية
في كل نظام استبدادي، يكون الإعلام أول ما يُختَطف، وأول ما يُفرَّغ من المعنى.
وفي سوريا، لم يكن الإعلام سلطة رابعة، بل كان أداة رابعة في قبضة السلطة الأولى، يُستخدم لترويج الرواية الرسمية، وتشويه الحقائق، واغتيال المعارضين معنويًا، وتحويل الكذب إلى واجب وطني.
عبر عقود، لم يكن الإعلام السوري صوتًا للناس، بل صوتًا ضدهم:
أنكر المجازر،
سوّق للفقر كفضيلة،
صوّر القهر على أنه أمن،
وتحدث باسم الناس من دون أن يُصغي إليهم يومًا.
ومع الثورة، ثم الحرب، تفتّت المشهد الإعلامي إلى أذرع متصارعة، تحوّل فيها الإعلام إلى سلاح، لا إلى منصة وعي.
وباتت الحقيقة ضائعة بين إعلام النظام، وإعلام الفصائل، وإعلام الخارج، ومعها ضاعت صورة سوريا، وذاكرة السوريين، والقدرة على إنتاج خطاب وطني جامع.
في مشروع النهضة، لا يُعاد الإعلام ليكون أداة سلطة جديدة، بل يُؤسَّس كنظام سيادي معرفي مستقل، هدفه صناعة الوعي لا تسويقه، حماية الحقيقة لا تزييفها، وتحرير الكلمة لا تسخيرها
وهذا الفصل هو الخطوة الأولى في بناء إعلام سيادي وطني حر، محترف، ومسؤول.
أولًا: تشريح أزمة الإعلام في سوريا
إعلام البروباغندا السلطوية
منذ الستينات، خضع الإعلام السوري للحزب الحاكم، وتحوّل إلى جهاز تعبئة حزبية، يُعيد تدوير بيانات القيادة بدل نقل الواقع.
غياب المهنية والحرية
لا صحافة تحقيقية، ولا إعلام استقصائي، ولا نقد مسموح به، بل مواد “توجيهية” مكررة، خاضعة للرقابة الأمنية.
انهيار الثقة الشعبية بالإعلام الرسمي
أصبح الإعلام السوري مرادفًا للكذب، والانفصال عن الواقع، والعجز عن التعبير عن آلام الناس أو طموحاتهم.
فوضى إعلام المعارضة والفصائل
رغم نشأته بوصفه ردًّا على التزييف، سقط كثير من هذا الإعلام في الفئوية، والتضليل، والتشويه المضاد، أو الارتهان للأجندات الخارجية.
غياب بنية إعلامية مستقلة ومستدامة
لا مؤسسات حرة، لا قوانين ناظمة عادلة، لا دعم إنتاجي، ولا حماية قانونية للصحفيين والمبدعين.
ثانيًا: أهداف السياسة الإعلامية في مشروع النهضة
تحرير الإعلام من كل وصاية حزبية، أمنية، أو سلطوية.
إعادة بناء إعلام وطني مستقل يعكس واقع السوريين ويُعبر عنهم.
تمكين المؤسسات الإعلامية من العمل ضمن بيئة قانونية ومهنية مستقرة.
تحقيق التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الوطنية.
تحويل الإعلام من منبر صراع إلى مساحة وعي وتشارك في بناء المستقبل.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
إقرار “قانون الإعلام الوطني السيادي“
يُعيد تعريف الإعلام كقطاع حر، مستقل، ويؤسّس لضمانات قانونية تمنع الرقابة المسبقة، وتحمي الصحفيين، وتنظم التراخيص ضمن معايير واضحة وشفافة.
تأسيس “المجلس الأعلى للإعلام المستقل“
هيئة دستورية غير حكومية، تضم صحفيين، وأكاديميين، وممثلين عن المجتمع المدني، تُشرف على تنظيم القطاع دون تدخل تنفيذي.
دعم إنشاء مؤسسات إعلامية محلية مستقلة
صحف، محطات إذاعية، تلفزيونات، منصات رقمية، تعمل بحرية في المحافظات كافة، وتُدار من قبل مهنيين مستقلين، بتمويل شفاف خاضع للمساءلة.
إطلاق “صندوق دعم الإنتاج الإعلامي الوطني“
يُموَّل من موازنة الدولة ومن مساهمات طوعية، ويُخصَّص لدعم الأفلام الوثائقية، التحقيقات الاستقصائية، البرامج الثقافية والإنسانية.
إدماج التربية الإعلامية في المناهج التعليمية
لتعزيز الوعي بالنقد الإعلامي، ومقاومة التضليل، وتكوين أجيال قادرة على التمييز بين الخبر والدعاية.
إنشاء “أكاديمية الإعلام الحر“
مؤسسة تعليمية وطنية تُعنى بتدريب الصحفيين وفق أفضل المعايير المهنية، وتُخرّج كوادر قادرة على العمل في بيئة معقدة ومتعددة التحديات.
ربط الإعلام بالتحول الديمقراطي
عبر فتح المجال للمساءلة الإعلامية، ومنح الصحافة الحق في الوصول إلى المعلومات العامة، وتوثيق الفساد والانتهاكات دون خوف.
رابعًا: التحديات البنيوية والسياسية
شبكات النفوذ الإعلامي القديم الموروثة عن النظام.
الاستقطاب السياسي الحاد وانعدام الموضوعية في التغطية.
ضعف التمويل المستقل ومخاطر الارتهان الخارجي.
هشاشة البنية القانونية والثقافة المجتمعية التي تُحمّل الإعلام مسؤوليات تتجاوز دوره.
ولذلك، يجب أن يُبنى الإعلام السيادي ضمن إطار قانوني–ثقافي يُوازن بين الحرية، والمسؤولية، والاحتراف.
خامسًا: الإعلام كمرآة للسيادة لا أداة للسلطة
في مشروع النهضة، لا يُعاد الإعلام ليكون صوت النظام الجديد، بل ليكون صوت الحقيقة في زمنٍ تحتاج فيه الشعوب إلى البوصلة أكثر من الراية.
نحن لا نُريد إعلامًا يُهلّل، ولا إعلامًا يُعادينا، بل نريد إعلامًا ينقد، يُراجع، يُراقب، يُنتج، يُبدع، ويُربّي الوعي.
فمن دون إعلام حر، لا رأي عام.
ومن دون رأي عام، لا سياسة.
ومن دون سياسة، لا دولة، بل سلطة.
خاتمة الفصل
الإعلام السيادي ليس إعلام “الدولة”، بل إعلام الناس في دولة تحترمهم.
هو الذاكرة الحية، والصوت الحر، والجسر بين السلطة والمجتمع.
وفي سوريا الجديدة، لا نُريد إعلامًا يتحدث باسم الناس، بل إعلامًا يُنصت إليهم.
ففي زمن الضجيج، تكون الكلمة الصادقة هي السيادة بعينها.