القسم الثالث عشر – الباب الرابع
الفصل العشرون السياسة السيبرانية والرقمية
من التبعية التقنية إلى السيادة المعلوماتية
مقدمة تمهيدية
في القرن الحادي والعشرين، لم تعد السيادة مسألة جغرافيا فقط، بل أصبحت أيضًا مسألة بيانات، وشبكات، وخوارزميات.
فالدولة التي لا تملك أدواتها الرقمية، ولا تسيطر على فضائها السيبراني، ولا تحمي بيانات شعبها، تصبح كيانًا تابعًا مهما رفعت شعارات الاستقلال.
وفي سوريا، جرى تغييب هذا الوعي بالكامل، بل تم تعمُّد إبقاء الدولة والمجتمع في حالة من العجز التكنولوجي، والتبعية الرقمية، والاختراق السيبراني الممنهج.
لقد:
أُهملت البنية الرقمية،
واحتُكرت الاتصالات من قبل أجهزة الأمن،
واستُخدمت الرقابة الرقمية أداة للترهيب،
وتحوّلت الخصوصية إلى ترف،
وعُزل المواطن السوري عن اقتصاد المعرفة،
فيما أُغلق الفضاء الإلكتروني أمام حرية التعبير والتطوير التقني الوطني.
في مشروع النهضة، لا يُطرح الفضاء الرقمي بوصفه أداة رفاه أو تسلية، بل كجبهة سيادية، ومعيار لتقدّم الدولة، وشرط لبناء اقتصاد معرفي متكامل.
نريد لسوريا أن تكون رقمية، لا مراقَبة؛ سيادية، لا مخترَقة؛ متصلة بالعالم، دون أن تفقد سيطرتها على ذاتها.
أولًا: توصيف التخلّف الرقمي والسيبراني في سوريا
هيمنة أمنية على قطاع الاتصالات والمعلومات
تحوّل الإنترنت والهاتف إلى أدوات للتجسس الداخلي، بدل أن تكون أدوات تواصل وخدمة.
تخلف في البنية التحتية التكنولوجية
شبكات بطيئة، تقنيات متقادمة، وغياب شبه تام للمنصات الرقمية الوطنية.
انعدام حماية البيانات والخصوصية
لا قوانين عصرية للخصوصية، ولا مؤسسات لحماية المعلومات الشخصية أو التجارية أو السيادية.
التبعية الكاملة للشركات والأنظمة الأجنبية
عدم وجود منصات محلية مستقلة، أو أنظمة تشغيل وطنية، أو مراكز بيانات سيادية.
غياب استراتيجية وطنية للسيادة الرقمية
لا خريطة للذكاء الاصطناعي، ولا للتعليم الرقمي، ولا للحوكمة الإلكترونية، ما جعل البلاد خارج العصر الرقمي تمامًا.
ثانيًا: أهداف السياسة السيبرانية والرقمية في مشروع النهضة
بناء منظومة سيادة رقمية وطنية شاملة.
تحرير قطاع الاتصالات من الهيمنة الأمنية وتحويله إلى بنية مدنية–تنموية.
ضمان حماية البيانات الشخصية والسيادية ضمن إطار قانوني ومؤسسي صارم.
إطلاق بنية تحتية رقمية ذكية، سريعة، وآمنة في كامل الجغرافيا السورية.
تأهيل الأجيال الجديدة لدخول العصر الرقمي كمنتجين لا كمستهلكين فقط.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
إعداد “الاستراتيجية الوطنية للسيادة الرقمية“
خارطة طريق لعشر سنوات تشمل: تطوير البنية الرقمية، الذكاء الاصطناعي، حماية البيانات، الأمن السيبراني، والتصنيع الرقمي.
تأسيس “الهيئة العليا للسيادة السيبرانية“
مؤسسة وطنية مستقلة تُشرف على حماية الفضاء الرقمي الوطني، وتدير الأمن السيبراني، وتضمن حيادية الإنترنت وخدماته.
إقرار “قانون حماية البيانات والخصوصية الرقمية“
قانون عصري يُجرّم الاختراق والتجسّس، ويضمن حق المواطن في حماية بياناته من الدولة أو الشركات أو أي جهة.
إنشاء مراكز بيانات وطنية سيادية
لاستضافة المواقع الحكومية، والبنى التحتية الرقمية، والمنصات الوطنية، بعيدًا عن الاستضافة الأجنبية.
تحويل التعليم العام إلى تعليم رقمي–مفتوح–تفاعلي
إدخال التعليم الإلكتروني في المدارس والجامعات، مع تطوير المحتوى الرقمي الوطني، ودعم تقنيات الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي.
تمكين المجتمع الرقمي المحلي
دعم رواد الأعمال، المبرمجين، المطوّرين، والمشاريع التقنية، من خلال تمويل حكومي ومسرّعات أعمال وطنية.
حملات توعية رقمية واسعة
لنشر ثقافة الخصوصية، الأمان الرقمي، محاربة التضليل الرقمي، وتعزيز التفكير النقدي في البيئة الرقمية.
رابعًا: التحديات التقنية والسياسية
الممانعة الأمنية لفك قبضتها عن قطاع المعلومات.
الاعتماد الكامل على تقنيات وشبكات أجنبية معرضة للاختراق أو الانقطاع.
النقص الحاد في الكوادر الوطنية المؤهلة في علوم الشبكات والبيانات والبرمجيات.
افتقار الرؤية السياسية التقليدية لأهمية الفضاء السيبراني كركيزة للسيادة الشاملة.
خامسًا: الرقمنة بوصفها بُعدًا من أبعاد الاستقلال
في مشروع النهضة، لا تُفهم الرقمنة كخدمة تكميلية، بل كجزء من جوهر السيادة الحديثة.
لا معنى لحكومة تدّعي الوطنية إذا كانت بنيتها المعلوماتية بيد شركات أجنبية، ولا معنى للخصوصية إذا كانت بيانات المواطن تُباع في السوق السوداء.
نحن نُريد دولة تحفظ كلمات مواطنيها كما تحفظ حدودها، وتبني أدواتها الرقمية كما تبني مدارسها، وتخترق الجهل لا مواطنيها.
خاتمة الفصل
في عالم تحكمه الخوارزميات، تصبح السيادة الرقمية من شروط البقاء، لا من شروط التقدّم فقط.
وسوريا الجديدة لن تُبنى في الماضي، بل في المستقبل، ولن تحمي نفسها فقط بالبندقية، بل أيضًا بالسيرفر والكود والخطاب الحر والمعلومة الدقيقة.
في مشروع النهضة، نعلن أن من لا يملك بياناته، لا يملك قراره.
ولهذا، فإن الفضاء الرقمي ليس خارج السياسة، بل هو الآن مسرح السيادة ذاته.