القسم الثالث عشر – الباب الخامس
الفصل الحادي والعشرون السياسة الخارجية
من المسايرة إلى السيادة المتوازنة
مقدمة تمهيدية
في عالمٍ تتشابك فيه المصالح، وتتقاطع فيه المشاريع، وتُصاغ فيه الخرائط على طاولات الغير، تصبح السياسة الخارجية مرآةً لهوية الدولة، لا مجرد نشاط دبلوماسي.
وفي الحالة السورية، لم تكن السياسة الخارجية يومًا تعبيرًا سياديًا حقيقيًا، بل كانت إمّا تابعًا للتحالفات الإيديولوجية، أو أداة بيد الأجهزة الأمنية، أو منبرًا للشعارات دون قدرة فعل.
منذ الاستقلال، لم تُبنَ عقيدة دبلوماسية راسخة لسوريا. بل ظلت العلاقات الخارجية تُدار بمنطق ردود الفعل، والانفعالات، والاصطفافات الظرفية، أو التبعية الكاملة لقوى الحماية، شرقًا أو غربًا.
ومع انفجار الأزمة، باتت سوريا ساحة نفوذ دولي معلن ومتنازع عليه، لا فاعلًا فيه، بل مفعولًا به، واختُزل تمثيلها الخارجي بين منظومات استبدادية متهاوية، أو كيانات بديلة تابعة.
في مشروع النهضة، لا تُفهم السياسة الخارجية بوصفها وظيفة ملحقيات وسفراء فقط، بل باعتبارها استراتيجية وجود دولي–سيادي تحمي القرار، وتؤمّن المصالح، وتُحسن التموضع، وتعيد الاعتبار لصوت الدولة السورية في العالم.
وهذا الفصل يُعيد بناء منطق العلاقات الدولية من موقع الفاعلية لا التبعية، ومن منطلق التوازن لا التماهي، ومن روح السيادة لا مرونة الانبطاح.
أولًا: تشريح الانهيار الدبلوماسي السوري
تحويل السياسة الخارجية إلى أداة دعائية للداخل
تم اختزال الدور الخارجي في الدفاع عن شرعية النظام لا عن مصالح الدولة، فبات الخطاب الخارجي استعراضًا شعاريًا لا خطة وطنية.
التحالفات القسرية والانغلاق الإيديولوجي
ربط السياسة الخارجية بمحاور “الممانعة” أو “المواجهة”، دون إعادة تقييم واقعي للمصالح والعلاقات التاريخية والمستقبلية.
عسكرة العلاقات الدولية
اعتماد الأجهزة الأمنية والعسكرية لتولّي ملفات دبلوماسية حساسة، ما أضعف المهارة السياسية وعمّق العزلة.
تفكك التمثيل الوطني في الخارج
تعدد الكيانات السورية، بين نظام ساقط، وهيئات معارضة، ومجالس منفية، أفرغ صورة سوريا من المعنى الرسمي، وأربك الشركاء الدوليين.
غياب الاستراتيجية الشاملة للعلاقات الخارجية
لا عقيدة واضحة، ولا دوائر نفوذ مدروسة، ولا مرجعية موحّدة للقرار الخارجي.
ثانيًا: أهداف السياسة الخارجية في مشروع النهضة
تحقيق التموضع السيادي المتوازن لسوريا في بيئة دولية معقدة ومتغيرة.
الخروج من ثنائية الانعزال أو الارتهان، نحو الانفتاح الذكي والمراقب.
إعادة بناء صورة سوريا كفاعل دولي شرعي، مستقل، مسؤول، وشريك في الاستقرار الإقليمي.
تأسيس جهاز دبلوماسي محترف، مستقل عن الأجهزة، خاضع للمصلحة الوطنية فقط.
تحويل العلاقات الدولية إلى أدوات دعم للمشروع الداخلي، لا عبءً عليه.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
إعداد “العقيدة الدبلوماسية السورية الجديدة“
وثيقة تأسيسية تحدد المبادئ الحاكمة للعلاقات الدولية لسوريا ما بعد الاستبداد، على قاعدة السيادة، المصالح، التوازن، والانفتاح.
إعادة هيكلة وزارة الخارجية وفصلها الكامل عن الأجهزة الأمنية
بناء جهاز دبلوماسي مدني–سياسي، يُدار بكفاءات مدرّبة، ويخضع لمجلس رقابي برلماني مستقل.
إنشاء “المعهد الدبلوماسي الوطني“
مؤسسة تعليمية وتدريبية تُعِدّ الدبلوماسيين الجدد، وتُعيد تأهيل السفراء والممثلين ضمن معايير مهنية وسيادية صارمة.
استراتيجية الانفتاح الإقليمي التدريجي
إعادة صياغة العلاقات مع الدول العربية على أسس المصالح المشتركة، الاحترام المتبادل، والتعاون غير الخاضع لمحاور الهيمنة.
خطة لاستعادة العلاقات مع المنظمات الدولية
العمل على استعادة المقاعد الرسمية في الأمم المتحدة والمنظمات الأممية، وإعادة الاعتبار للوجود السوري في المحافل الحقوقية والتنموية.
بناء شبكات شراكة مع القوى الصاعدة
تفعيل علاقات متوازنة مع دول مثل الهند، جنوب أفريقيا، البرازيل، ودول آسيا الوسطى، لتوسيع هامش الخيارات وتقليل التبعية.
تحويل الجاليات السورية في المهجر إلى طاقة دبلوماسية شعبية
دعم مبادرات المغتربين، وتأسيس مجالس تمثيل مدني في الشتات تُعبر عن مصالحهم وتربطهم بالمشروع الوطني الجديد.
رابعًا: التحديات الإقليمية والدولية
وجود احتلالات ونفوذ عسكري أجنبي فعلي داخل الأرض السورية، ما يُضعف من صدقية أي خطاب سيادي غير مقرون بخطة تحرر تدريجية.
انقسام المجتمع الدولي حول الملف السوري، ما يتطلب عقلانية ومرونة في المبادرة، دون تنازل عن الجوهر السيادي.
ضعف أدوات التأثير الفعلية السورية في ملفات دولية متشابكة، ما يفرض تطوير أدوات ناعمة وشبكات نفوذ غير تقليدية.
الإرث الثقيل من الخطابات العدائية التي قطعت الجسور دون ضرورة استراتيجية.
خامسًا: السيادة الخارجية كمرآة للسيادة الداخلية
في مشروع النهضة، لا تُصاغ السياسة الخارجية في الفراغ، بل تُشتق من هوية الدولة الجديدة:
ديمقراطية في الداخل،
سيادية في الإقليم،
مسؤولة في العالم،
وذات مشروع وطني يُترجم إلى لغة سياسية مفهومة ومدروسة.
لا نسعى إلى العداء مع أحد، لكن لا نقبل الخضوع لأحد.
لا نطلب حماية، بل نحمي مصالحنا.
لا نبحث عن وصيّ، بل عن شريك.
خاتمة الفصل
الدولة التي تستعيد استقلالها، يجب أن تستعيد لغتها الخارجية.
وفي زمن تاهت فيه سوريا بين الأطراف، حان الوقت لتنهض كدولةٍ تعرف من هي، وماذا تريد، ولأي تحالف تنتمي، ولأي هدف تتحرك.
فالسيادة لا تكتمل إذا بقي القرار الخارجي مرتهنًا، أو إذا بقي السوريون مجرد متلقين لقرارات من الخارج.
وفي مشروع النهضة، نبدأ من الداخل، لكننا نعرف أن العالم لن ينتظرنا، ولهذا، نذهب إليه بقوة المعنى، ووضوح الرؤية، وثبات السيادة.