web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الأول

الفصل الرابع الرقابة القضائية

استقلال القضاء كأداة مراجعة وتقييم

مقدمة الفصل

في الدول التي تفقد بوصلتها القانونية، يتحوّل القضاء إلى أداة تزكية للسلطة، وتُغلق أبواب المحاكم في وجه المواطن حين يتعلّق الأمر بمساءلة الحاكم. أما في مشروع النهضة، فإن القضاء لا يُعامل كوظيفة إدارية أو ملحقٍ بيروقراطي، بل كجهاز سيادي مستقل، يُعدّ الضامن الأعلى للعدالة، والحارس الأخير للشرعية، والسلطة الوحيدة المخوّلة بإيقاف التجاوز على القانون، أيًّا كان مصدره.

الرقابة القضائية في هذا السياق ليست مسألة فنية أو قانونية فقط، بل خيارٌ فلسفي–سياسي يعكس إيمان الدولة بأن العدالة لا تكتمل إلا بوجود سلطة قضائية حرة، قادرة على محاسبة جميع السلطات الأخرى، دون خضوع أو تردّد أو انتقاء.

أولًا: استقلال السلطة القضائية – من الحياد الصوري إلى السيادة الفعلية

لا رقابة قضائية دون استقلال فعلي، وهو ما يتطلب:

إلغاء تبعية النيابة العامة لوزير العدل أو السلطة التنفيذية، وجعلها جزءًا من بنية قضائية مستقلة.

تحصين القضاة من العزل والنقل إلا بقرار قضائي داخل مجلس قضاة مستقل.

فصل الموازنات المالية للقضاء عن السلطة التنفيذية، وتخصيصها بقرار من المجلس التشريعي.

رفض أي تدخل إداري أو سياسي في تعيين القضاة أو ترفيعهم أو مساءلتهم.

بهذا الاستقلال، يُصبح القضاء سلطة لا وظيفة، ومؤسسة رقابية لا تابعًا إداريًا.

ثانيًا: مهام الرقابة القضائية في الدولة السيادية

تشمل الرقابة القضائية في مشروع النهضة:

مراجعة دستورية القوانين والسياسات العامة عبر محكمة دستورية عليا مستقلة تمامًا.

محاسبة الوزراء والمسؤولين التنفيذيين أمام القضاء في حال انتهاك القانون أو الدستور.

حماية الحقوق الفردية والعامة عبر إمكانية الطعن في قرارات الدولة لدى المحاكم.

إصدار أوامر قضائية تلغي أو توقف تنفيذ سياسات إن ثبتت مخالفتها للشرعية القانونية أو الدستورية.

ضمان الحريات الإعلامية والمدنية بمواجهة أية محاولة للتقييد غير المبرر أو القمع غير المشروع.

هذا يجعل من القضاء آخر حصن للمواطن، لا آخر خطوة في سلسلة اليأس.

ثالثًا: القضاء الإداري – الأداة التنفيذية لرقابة الدولة على نفسها

في صلب الرقابة القضائية، يبرز القضاء الإداري كأحد أخطر وأهم أدوات التقييم، ويتطلب:

استقلال القضاء الإداري عن القضاء العادي والتنفيذي، ليتمكن من الحكم في النزاعات بين الأفراد والدولة.

تفعيل المحاكم الإدارية على مستوى المحافظات والدوائر العامة.

ضمان حق الطعن الإداري لكل مواطن تضرر من قرار أو فعل حكومي.

إعطاء القضاء الإداري سلطة وقف التنفيذ الفوري لأي قرار إداري مشوب بالخلل.

بهذا يصبح المواطن شريكًا قانونيًا فاعلًا، لا مجرد متلقٍّ للقرارات العليا.

رابعًا: القاضي كمُراجع سيادي – من الحياد إلى الفعل

لا يكفي أن يكون القاضي محايدًا، بل يجب أن يكون فاعلًا في حماية العقد الاجتماعي، ويتجسد ذلك عبر:

إلزام القضاة بقراءة السياسات من منظور شرعية لا قانونية فقط، أي الموازنة بين النص القانوني والعدالة الفعلية.

تدريب القضاة على التعامل مع قضايا الشأن العام لا فقط القضايا المدنية أو الجنائية.

إنشاء وحدات دعم تحليل قانوني تساعد القضاة على مراجعة تعقيدات السياسات العامة وموازنتها مع القانون.

تفعيل وظيفة “قاضي الشعب” القادر على إصدار أحكام رمزية وسيادية تُعيد الاعتبار للمواطن وحقوقه أمام سطوة المؤسسات.

القضاء هنا لا يراقب فقط، بل يُصحّح، ويُعيد التوازن، ويعيد للدولة أخلاقها القانونية.

خامسًا: مجلس القضاء الأعلى – الحامي الداخلي للنزاهة القضائية

يُشكَّل مجلس قضاء أعلى مستقل، يتم انتخابه من داخل الجسم القضائي، لا تعيينه من خارجه، ويتولى:

إدارة شؤون القضاة، وحمايتهم من الضغط السياسي أو المالي.

إصدار مدونات سلوك قضائي ملزمة تُحدّد العلاقة بين القاضي والسلطة والمجتمع.

مراجعة دورية لأداء القضاء والمحاكمات العامة لضمان النزاهة والاستقلال.

مراقبة القضاء نفسه ومحاسبة القضاة عند الإخلال بشروط الحياد أو النزاهة.

هذا المجلس لا يُدار من فوق، بل من داخل المؤسسة، وهو ما يحصّن القضاء ويمنع اختراقه.

سادسًا: رقابة قضائية علنية – من الغرف المغلقة إلى الشفافية المؤسسية

تُفعّل الرقابة القضائية من خلال آليات علنية تشمل:

نشر الأحكام القضائية المتعلقة بالشأن العام وتفسيرها بلغة مفهومة.

تغطية إعلامية حيادية لجلسات كبرى تتعلق بحقوق الناس أو أداء الدولة.

تشجيع المواطنين على اللجوء للقضاء دون خوف أو عوائق مادية أو سياسية.

بهذا، لا تعود المحاكم مقابر للحقوق، بل منارات للعدالة.

خاتمة الفصل

إن الرقابة القضائية، حين تكون حقيقية، تُشكّل الضمان الأعلى لأي مشروع سيادي. فهي لا تُنهي الخلل فحسب، بل تمنع نشوءه، وتمنح المواطن آخر وأعلى أدوات الانتصار على الظلم، وتُعيد للدولة معناها كضامن للحق لا كأداة قهر. في مشروع النهضة، يصبح القاضي ليس فقط حامي القانون، بل حارس الإنسان، وحَكمًا نزيهًا بين الدولة ومواطنيها.