web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الثاني

الفصل الخامس المحاسبة الأخلاقية

من الفعل إلى معيار الضمير العام

مقدمة الفصل

في قلب كل مشروع تحوّلي يكمن سؤال أخلاقي لا مفرّ منه: هل ما نقوم به يستحق أن يُنجز؟

فالإنجاز، في حدّ ذاته، لا يصنع شرعية دائمة، إن لم يكن منسجمًا مع منظومة قيمية تشكّل الضمير العام للدولة والمجتمع. ولهذا، لا يكفي أن تكون السياسات ناجحة على الورق، أو فعّالة من منظور الأرقام، إذا ما كانت ملوّثة بالأذى، أو قائمة على التمييز، أو خالية من العدالة، أو مصمّمة ببرود فوقي يُهمّش الإنسان ويستبدل إرادته بالإدارة.

المحاسبة الأخلاقية ليست بديلًا عن الرقابة المؤسسية، بل هي مستواها الأعلى، حيث لا تُقيَّم الأفعال بناءً على القانون فقط، بل على مقياس الضمير العام، وعلى شعور الناس بالعدالة، وبأن الدولة التي تحكمهم لا تحتقر مشاعرهم، ولا تبرر الألم بالضرورة، ولا تستبيح الكرامة باسم المصلحة.

في هذا الفصل، نؤسس لثقافة سياسية جديدة تقول: إن السيادة لا تكتمل بلا أخلاق، وإن الدولة التي لا تُحاسب نفسها أخلاقيًا، تتحوّل مهما حسُنت نواياها إلى سلطة مادية بلا روح، وإلى مشروع تنموي فاقد للمعنى.

أولًا: من مشروعية الفعل إلى مشروعية الأثر

ليست كل الأفعال القانونية عادلة، وليست كل النتائج الإيجابية أخلاقية.

ولهذا، فإن المحاسبة الأخلاقية تتجاوز منطق “النيّة” و”الإجراء”، نحو مساءلة المعنى والنتائج من منظور قيمي، فتسأل:

هل أُنجز الفعل بطريقة تحفظ كرامة الإنسان؟

هل أثّر القرار على الفئات الأضعف بشكل غير عادل؟

هل استُخدم خطاب صادق مع المجتمع أم خادع؟

هل تمّت مراعاة الأثر المعنوي والرمزي على المجتمع؟

بهذه الأسئلة، يُعاد تعريف الإنجاز، لا بما أنجز، بل كيف ولماذا وبأي ثمن.

ثانيًا: الدولة كفاعل أخلاقي – لا آلة تنفيذ

في مشروع النهضة، لا تُعامَل الدولة ككائن بيروقراطي ينجز المهام، بل كفاعل أخلاقي مسؤول عن اختياراته أمام الناس والتاريخ.

ويعني ذلك:

أن كل سياسة تُنفّذ تُقاس على ميزان العدالة، وليس فقط على ميزان الكفاءة.

أن الحكومة لا تملك حق التضحية بأي فئة مجتمعية بحجة “المصلحة العامة” ما لم تكن جزءًا من التوافق العام عليها.

أن الدولة لا تُقدّم الفعل التقني كغطاء لتبرير القمع أو التمييز أو التغاضي عن الخطأ.

وهذا يُحوّل المؤسسات من أدوات تنفيذ، إلى مؤسسات ذات ضمير مؤسسي، تنفّذ وتراجع وتعتذر عند الحاجة.

ثالثًا: معيار الضمير العام – محكمة غير مكتوبة

الضمير العام ليس دستورًا مكتوبًا، بل قانون حيّ في وجدان المجتمع. هو الإحساس الجمعي بالصواب، والرفض العميق للظلم حتى لو غُلف بالقانون.

ولذلك، فإن المحاسبة الأخلاقية تعتمد على:

صوت الشارع عندما يشعر بالخذلان أو الانتهاك.

الإعلام الحر حين يفضح التلاعب بالأخلاق العامة.

الرموز المجتمعية التي ترفض تحويل الظلم إلى روتين.

المثقفين والمفكرين الذين يرسمون حدود العدالة عندما تعجز المؤسسات.

بهذا، لا تبقى المحاسبة الأخلاقية نظرية، بل تُمارَس من خلال قوى المجتمع الحي، الرافض أن تُدار الدولة وكأن الإنسان رقم أو عقبة في معادلة الإنجاز.

رابعًا: آليات تفعيل المحاسبة الأخلاقية – من الرمز إلى النظام

حتى لا تبقى الأخلاق مجرد نداء وجداني، لا بد من تحويلها إلى نظام دائم، ويشمل ذلك:

إنشاء مجلس استشاري للمحاسبة القيمية يتكوّن من مفكرين، قانونيين، رجال دين، ونشطاء مجتمعيين، لمراجعة الأثر الأخلاقي للسياسات الكبرى.

اعتماد مبدأ الشفافية القيمية في كل خطة حكومية، بحيث تُدرج ضمن تقارير الأداء مؤشرات عن العدالة، الأثر المجتمعي، وحقوق الفئات الهشة.

إصدار تقارير أخلاقية سنوية موازية للتقارير الإدارية، تُعرض على البرلمان والمجتمع.

إتاحة حق الاعتراض الشعبي الأخلاقي، من خلال أدوات قانونية تتيح للمواطنين تقديم طعون غير قانونية ولكن قيمية، تُعرض على لجان تقييم مستقلة.

بهذه الآليات، يتحوّل الضمير من قيمة أخلاقية إلى مؤسسة رقابية.

خامسًا: العدالة الرمزية – كيف يشعر الناس بالدولة

ليست كل عدالة مرئية في الأرقام. أحيانًا يكون الإحساس بالعدالة أهم من العدالة نفسها.
فالدولة الأخلاقية تراعي:

لغة الخطاب الرسمي ألا تكون متعالية أو مستهينة.

توزيع الرموز الوطنية والاحتفالات والتكريمات بعدالة حقيقية.

معالجة الجروح التاريخية والمناطقية والطائفية برمزية إنصاف لا بخطابات مفرغة.

الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها حين تكون، بدل إخفائها أو تزويرها.

فالدولة التي تخطئ وتعتذر، أكثر شرعية من دولة تدّعي الكمال وتُخفي جراحها.

خاتمة الفصل

إن المحاسبة الأخلاقية ليست ترفًا نخبويًا، ولا خضوعًا لعواطف جماهيرية، بل هي جوهر الدولة الجديدة التي تريد أن تحكم لا فقط بالكفاءة، بل بالمعنى.

وهي ما يجعل مشروع النهضة مختلفًا عن أي مشروع تنموي عابر؛ لأنه مشروع لبناء دولة تُحاكم نفسها بقيمها، وتزن أفعالها بضمير ناسها، وتربط إنجازها بإحساس المجتمع بعدالتها.