web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الثالث

الفصل التاسع مؤشرات الأداء السيادي

تشخيص الأعطاب المؤسسية قبل التدهور

مقدمة الفصل

في الأنظمة التقليدية، لا تُكتشف الأعطاب المؤسسية إلا بعد أن تُصبح أزمات كبرى. أما في مشروع النهضة، فإن التدهور لا يُنتظر ليُعالج، بل يُتوقَّع ويُرصد ويُمنع قبل أن يستفحل. وهذا لا يتم إلا من خلال منظومة دقيقة ومرنة من مؤشرات الأداء السيادي، لا تُقيس النجاح فقط، بل تقيس علامات الخلل المبكر، ومواطن الضعف الهيكلي، ومكامن الانحرافات الصامتة.

تقوم هذه المؤشرات بوظيفة مزدوجة: التقييم الكمي لأداء المؤسسات، والتشخيص النوعي لأثرها في المجتمع. وهي لا تُستعمل بوصفها أدوات محاسبة فحسب، بل آليات استباق تُفعّل مبدأ الدولة القادرة على مراجعة ذاتها وهي لا تزال تعمل، لا حين تتهاوى.

أولًا: من مؤشرات الإنجاز إلى مؤشرات المناعة

التمييز الجوهري في مشروع النهضة يتمثل في فهم أن نجاح المؤسسة لا يُقاس فقط بعدد المشاريع المنفذة أو كفاءة الخطط، بل أيضًا بقدرتها على مقاومة عوامل التآكل. ولهذا، تنقسم مؤشرات الأداء إلى:

مؤشرات الأداء التنفيذي: وتشمل مدى الالتزام بالخطة، الكفاءة الإدارية، مستوى الإنتاجية، وحجم الإنجاز الملموس.

مؤشرات الاستقرار المؤسسي: وتشمل نسبة الاستقالات غير المبررة، شكاوى الفساد الداخلي، تغيرات السياسات العشوائية، فقدان الكفاءات، أو تكرار الأخطاء البنيوية.

مؤشرات الأثر المجتمعي: وتشمل رضا الجمهور، مستوى الشفافية، تجاوب المؤسسة مع النقد، وقدرتها على التفاعل مع متغيرات الواقع.

مؤشرات التحصين الأخلاقي: مثل النزاهة، العدالة، الانحياز للفئات المهمشة، والبعد عن القرارات المنفعية قصيرة المدى.

بهذا، لا تبقى المؤسسة رهينة مظهر القوة، بل تُقاس بقدرتها على النجاة من داخلها.

ثانيًا: المؤشرات المبكرة للخلل – قراءة الأعطاب الصامتة

غالبًا ما يبدأ التدهور في المؤسسات بأعراض صغيرة لا تُلتقط إلا بأدوات دقيقة. ومن أبرز المؤشرات التي يجب رصدها دوريًا:

انخفاض نسبة المشاركة الداخلية في صناعة القرار.

زيادة الاعتماد على الأوامر لا على التشاور.

تأجيل المراجعات الدورية للخطط.

ظهور فجوات بين الأقسام التنفيذية والرقابية.

تدني مستوى الشفافية تجاه الجمهور.

تفاقم الروتين الإداري واختفاء المبادرة.

إن مراقبة هذه المؤشرات لا تتم لحظة الانفجار، بل خلال العمل اليومي، في تقارير أسبوعية وشهرية ترفع إلى مجالس مستقلة تُشخّص ولا تُبرّر.

ثالثًا: آليات التفعيل – من الملاحظة إلى القرار

لكي تتحول المؤشرات إلى أدوات فاعلة، لا بد من تفعيلها عبر:

وحدات تقييم مستقلة ضمن كل مؤسسة، تُصدر تقارير دورية دون تدخل إداري أو سياسي.

نظام تنبيه مبكر (Early Warning System) يُصدر إشارات حمراء حين تتجاوز المؤشرات حدود الأمان.

دمج تقارير الأداء السيادي ضمن ملف المسؤول التنفيذي، لتُؤخذ بعين الاعتبار في التجديد أو الإقالة.

تحويل المؤشرات إلى عنصر نقاش برلماني وإعلامي مفتوح، لا إلى ملف مغلق داخل الأدراج.

إن جوهر الفكرة يكمن في تحويل التقييم إلى ممارسة دائمة، لا إلى أزمة موسمية.

رابعًا: المؤشرات التفاعلية – من الإحصاء إلى التقييم الحي

لا تكفي المؤشرات الرقمية، بل يجب أن تُدمج بآليات حية تشارك فيها الأطراف المختلفة، ومنها:

استطلاعات رأي دورية تشمل الموظفين والمواطنين المتعاملين مع المؤسسة.

مراجعات داخلية تشاركية تُعقد كل ستة أشهر بمشاركة العاملين على مختلف مستوياتهم.

جلسات استماع مجتمعية مع ممثلي النقابات والجمعيات لمراجعة الأداء من خارج البنية الرسمية.

منصات تقييم مفتوحة على الإنترنت تتيح تسجيل الملاحظات والتجارب اليومية مع مؤسسات الدولة.

بهذا تتحول مؤشرات الأداء من معادلات رقمية إلى مرآة مجتمعية شاملة.

خامسًا: الثقافة المؤسسية كضامن لتفعيل المؤشرات

لا تنفع أي مؤشرات مهما كانت دقتها، إن لم تُبنَ ثقافة داخلية قائمة على الاعتراف بالخطأ لا إنكاره، وعلى فهم المراجعة لا كإدانة بل كفرصة للتحسين. ويعني ذلك:

تدريب القيادات على قراءة المؤشرات لا فقط الرد عليها.

مكافأة المؤسسات التي تُبلّغ عن خلل داخلي قبل أن يُكتشف خارجيًا.

تحصين وحدات التقييم من الانتقام أو التهميش.

تثبيت ثقافة التعلم المؤسسي لا التبرير السلطوي.

فالغاية ليست فقط كشف الأعطاب، بل بناء قدرة داخلية على تجاوزها دون انتظار الانهيار.

خاتمة الفصل

إن مؤشرات الأداء السيادي هي الأداة التي تمنع الصدمة، وتُرسّخ فلسفة المشروع القائلة: إن الدولة لا يجب أن تُحاسب فقط بعد الفشل، بل أن تُراجع ذاتها قبل أن تفشل.

فالمؤسسة التي تعرف أعطابها وتُقرّ بها، هي أكثر شرعية من مؤسسة تدّعي الكمال وتنهار فجأة.

بهذا، يصبح الأداء فعلًا مراقبًا ومطوّرًا، وتتحوّل الإدارة من طقوس يومية إلى منظومة حيوية متفاعلة لا تتوقف عن تصحيح مسارها.