web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الثالث

الفصل العاشر آليات المراجعة الدستورية

من التجميد إلى التفاعل

مقدمة الفصل

في النظم التقليدية، يُنظر إلى الدستور كوثيقة نهائية جامدة، يُكتب مرة واحدة ويُجمّد، ويُعامل كأيقونة لا تُمسّ، حتى لو تغيّرت الظروف وتبدّلت المعطيات. وفي هذا الجمود، يتحوّل الدستور من أداة لتنظيم الحياة السياسية إلى قيد على تطورها، ومن إطار مرن لحماية الحقوق إلى حائط عازل أمام التغيير.

أما في مشروع النهضة، فإن الدستور يُعامل بوصفه عقدًا حيًّا متجددًا بين الدولة والمجتمع، لا نصًا مقدّسًا فوق الواقع. ولهذا، لا تكتمل الشرعية الدستورية إلا حين تقترن بقدرة الناس على مراجعته، ومساءلة محتواه، وتعديله بما يواكب التحديات الجديدة. فالتفاعل مع الدستور لا يُضعف شرعيته، بل يُثبّتها، ويمنع تحوّله إلى مظلة تُبرّر الانحراف بدلًا من أن تمنعه.

أولًا: من قداسة النص إلى حيوية العقد

تنطلق فلسفة المراجعة الدستورية في مشروع النهضة من فهمٍ بسيط وعميق في آن:
أن النص الدستوري لا يُقاس بثباته، بل بقدرته على أن يظل صالحًا، وعادلًا، ومعبّرًا عن روح المجتمع المتجددة.

لذلك، تُعاد صياغة العلاقة مع الدستور وفق المبادئ التالية:

الدستور ليس نقيضًا للتطور، بل شرطًا لتوجيهه.

تعديل الدستور لا يعني هدم الدولة، بل تجديدها أخلاقيًا ومؤسساتيًا.

احترام الدستور لا يعني تحصينه من النقد، بل التزام دائم بمراجعته بما يحقق العدالة والتمثيل والمساءلة.

لا شرعية مستمرة لأي نصّ دستوري لا يخضع للإرادة الشعبية المستجدة.

ثانيًا: آليات المراجعة – من التعديلات الموسمية إلى المأسسة الدورية

بدل أن يُفتح باب التعديل فقط في لحظات الأزمة أو الصراع، يُقترح في مشروع النهضة تفعيل آليات مراجعة دستورية دورية تشمل:

مراجعة دستورية كل خمس سنوات، تُفعّل آليًا، حتى دون وجود أزمة سياسية.

هيئة مستقلة للمراجعة الدستورية تُعيَّن بالتوافق من البرلمان، والمجتمع المدني، والخبراء الدستوريين، وتشمل في عضويتها تمثيلًا مناطقيًا وشعبيًا واسعًا.

آلية تلقي ملاحظات شعبية رقمية ومباشرة على مواد الدستور، تُعرض دوريًا على الهيئة المختصة.

صلاحيات للبرلمان أو مجالس الأقاليم لتقديم طلبات مراجعة رسمية لمواد محددة في ضوء تغيرات محلية أو اجتماعية.

هذه الآليات تُحوّل النص الدستوري من مرآة جامدة إلى أداة تفاعلية حيّة تُصغي وتستجيب.

ثالثًا: ضمانات ضد الانقلاب على الدستور باسم التعديل

إذا كان الجمود خطرًا، فإن التلاعب باسم التعديل لا يقل خطرًا. ولهذا، لا بد من حواجز وقائية تضمن أن المراجعة تخدم الديمقراطية لا تُقوّضها، من خلال:

حظر التعديلات في أوقات الطوارئ أو النزاع المسلح، لضمان عدم استغلال الفوضى.

إلزامية عرض أي تعديل على استفتاء شعبي مباشر، لا مجرد تمريره عبر البرلمان.

اشتراط موافقة مزدوجة: أغلبية برلمانية مؤهلة + تصويت شعبي حُر.

منع المساس بالمبادئ العليا في الدستور (مثل كرامة الإنسان، مدنية الدولة، التعددية، وتداول السلطة) حتى عبر الاستفتاء، باعتبارها “ثوابت فوق دستورية”.

بهذه الضمانات، تتحول المراجعة إلى حق مشروع لا ثغرة للاستبداد.

رابعًا: المراجعة المضمونية – من النص إلى الأثر

لا تكفي المراجعة الشكلية للنصوص، بل يجب أن تشمل مراجعة أثر الدستور على الواقع الفعلي. ويشمل ذلك:

دراسة تطبيق المبادئ الدستورية في السياسات العامة، ومدى انسجام القوانين الفرعية معها.

تقييم أثر النصوص الدستورية على العدالة الاجتماعية، وحماية الحقوق، وتوازن السلطات.

مراجعة الصياغة اللغوية والفلسفية للنص، لضمان خلوّه من الغموض، أو التناقض، أو القابلية للتأويل السلطوي.

إتاحة مراجعات نقدية أكاديمية ومجتمعية للدستور، تُنشر دوريًا، وتُناقش في مؤتمرات عامة.

هكذا لا يُصبح الدستور كتابًا محفوظًا، بل نصًا مفتوحًا على الزمن.

خامسًا: الثقافة الدستورية – من قدسية الجهل إلى وعي السيادة

أحد أسباب الجمود الدستوري أن الشعوب لا تُدرَّب على فهم دساتيرها، بل تُربّى على احترامها بلا سؤال. في مشروع النهضة، تُعالج هذه الفجوة عبر:

إدخال التربية الدستورية في المناهج التعليمية منذ المراحل الأولى.

تبسيط مواد الدستور بلغة شعبية تُتاح للجمهور، بعيدًا عن التعقيد القانوني.

تخصيص برامج إذاعية وتلفزيونية لتفسير المبادئ الدستورية وأثرها اليومي على حياة المواطن.

تمكين المواطن من معرفة حقوقه الدستورية وتقديم اعتراضه إن انتُهكت دون الحاجة لمحامٍ أو وسيط.

إن ثقافة الدستور هي الشرط الأول لأي مراجعة دستورية ذات معنى.

خاتمة الفصل

إن مشروع النهضة لا يُفرّغ الدستور من قيمته، بل يُعيد له معناه الحيوي كعقد اجتماعي لا يتوقف عن التفاعل مع الإنسان والمجتمع والسياسة والتاريخ. فكل دستور لا يُراجع، يُفسد. وكل دستور يُجمّد، يتآكل.

والمجتمع الذي لا يشارك في كتابة دساتيره، سيُحكم بنصوص لا تمثله.

لهذا، فإن مراجعة الدستور ليست إضعافًا للدولة، بل علامة نضجها، وقدرتها على أن تُبقي نفسها صالحة، قابلة للحياة، منسجمة مع الزمن والضمير.