القسم الرابع عشر – الباب الثالث
الفصل الثاني عشر مجالس تقييم السياسات
المأسسة الدورية للنقد الذاتي
مقدمة الفصل
في سوريا، لطالما كان النقد فعلًا محفوفًا بالخطر، وكان مساءلة السياسات العامة عملاً انتحاريًا في ظل نظام يقدّس الصمت، ويعامل المراجعة كخيانة. فغابت المحاسبة، وتجذّرت الأخطاء، وتحوّلت الدولة إلى آلة تنفيذية مغلقة لا تعرف كيف تصحّح مسارها ولا تجرؤ على الاعتراف بانحرافها.
أما في مشروع النهضة، فإننا نُعيد الاعتبار للنقد بوصفه ممارسة سيادية، ونؤسس لآلية رقابية عميقة ومستدامة: مجالس تقييم السياسات، باعتبارها البنية الدستورية والسياسية التي تُمأسِس النقد الذاتي، وتمنح الدولة أداة للمراجعة الدورية المنظمة لا الانفعالية ولا الفوضوية.
ليست هذه المجالس آلية طارئة، بل ضرورة سورية حيوية. فهي تستجيب لحالة انهيار الثقة العامة، ولحاجة السوريين إلى بنية إصغاء سيادية لا أمنية، ولحاجة الدولة نفسها إلى جهاز يعيد تصويب الاتجاه قبل السقوط. وفي بلد خرج من تجربة قمعية طويلة، فإن النقد لا يُترك للفوضى، بل يُحوَّل إلى وظيفة وطنية محمية، واعية، وتشاركية.
أولًا: لماذا نحتاج إلى مجالس تقييم في الحالة السورية؟
لأن الدولة السورية التقليدية لم تكن تعرف المراجعة، بل كانت تعيد إنتاج الفشل عبر الإنكار والتبرير والتهويل.
لأن السوريين لم يعتادوا على فضاء رسمي للنقد، بل اعتادوا أن يُهمَّش صوتهم ويُلاحق إن ارتفع.
لأن السلطة، في نسختها السابقة، كانت لا تتغيّر إلا بفعل الانفجار، لا بفعل الحوار.
ولأن تجربة العقد الأخير أثبتت أن غياب النقد الذاتي البنيوي لا يؤدي إلى الثبات، بل إلى الانفجار المدمر.
ولذلك، لا تكون المجالس هنا استيرادًا لنموذج خارجي، بل تعبيرًا عن حاجة سورية ملحّة لتفكيك إرث الصمت، وتحرير الدولة من داخلها.
ثانيًا: طبيعة المجالس – من اللجان الشكلية إلى البنية السيادية
لا تُصمَّم هذه المجالس لتكون لجانًا استشارية، بل بنى رقابية سيادية تُلزم الدولة بمراجعة نفسها. وتتمتع المجالس
بالخصائص التالية:
الاستقلال المؤسسي الكامل: لا تتبع أي وزارة، بل ترتبط دستوريًا بمجلس السيادة أو مجلس النهضة الوطني.
التعددية التمثيلية: تضم أعضاء من البرلمان، المجتمع المدني، الهيئات الرقابية، الجامعات، والمناطق المحلية.
الدورية الزمنية: تُجري كل مجلس مراجعة نصف سنوية للسياسات الحكومية والمشاريع التنفيذية.
الإلزام الإجرائي: تُرفَع توصياتها إلى السلطات العليا وتُلزم المؤسسات المعنية بالرد عليها خلال فترة زمنية محددة.
العلنية المشروطة: تُنشر نتائج المراجعة للناس إلا فيما يخص القضايا الأمنية السيادية بقرار تبريري خاص.
بهذه الخصائص، لا تبقى المجالس أدوات تجميل، بل تتحوّل إلى آلية ضبط سيادي نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج.
ثالثًا: كيف تعمل المجالس – مراحل ومنهجيات
مرحلة الرصد:
تجمع المجالس معلوماتها من تقارير رسمية، منصات تقييم شعبية، لقاءات ميدانية، وتحقيقات مستقلة.
مرحلة التقييم:
تعتمد منهجيات علمية لتحليل الأداء: مؤشرات الإنجاز، قياس الأثر، الرضا المجتمعي، المردود المؤسساتي، وعدالة التوزيع.
مرحلة الاستماع:
تُنظّم جلسات استماع للمواطنين، العاملين في المؤسسات، والشركاء المحليين المتأثرين بالسياسات.
مرحلة التقرير:
تصدر المجالس تقريرًا علنيًا مفصلاً، يتضمن:
السياسات التي تحتاج مراجعة.
الجهات المقصّرة.
توصيات للتعديل أو الإيقاف أو إعادة الهيكلة.
خطوات للتصحيح ومواعيد إلزامية للتنفيذ.
مرحلة المتابعة:
تُشكّل فرق عمل لمتابعة تنفيذ التصحيحات المقترحة، وتقديم تقرير ثانوي بالنتائج.
رابعًا: ضمانات الحماية والاستقلال في السياق السوري
لكي لا تتحول هذه المجالس إلى ضحية لتوازنات القوى أو لتجاذبات النفوذ المحلي، لا بد من:
حمايتها دستوريًا من الحل أو التقييد، باعتبارها ركنًا رقابيًا سياديًا.
تجريم التدخل السياسي أو الأمني في أعمالها.
إعطاء أعضائها حصانة وظيفية كاملة خلال عملهم في التقييم.
إشراف هيئة مستقلة للقضاة والمجتمع المدني على تشكيلها لضمان عدم التلاعب بالعضوية.
إتاحة حق الاعتراض الشعبي على نتائجها في حال التلاعب أو التقصير، أمام هيئة تحكيم مستقلة.
بهذه الضمانات، تُبنى مؤسسة رقابية لا تخضع للسلطة، بل تخضع الدولة كلها للمساءلة.
خامسًا: البعد البنيوي – المجالس بوصفها آلية إعادة إنتاج الشرعية
تتجاوز هذه المجالس بعدها الإجرائي، لتصبح:
جهازًا لتجديد الثقة الشعبية في الدولة، من خلال منح الناس منصة تصحيحية فعّالة.
آلية لإعادة توزيع القوة داخل النظام السياسي السوري، من الرأس إلى الأطراف، من القرار الفردي إلى القرار المؤسسي التشاركي.
وسيلة لتقوية المجتمع المدني بوصفه شريكًا لا تابعًا.
جسرًا بين السلطات المحلية والمركزية، وبين الخبراء والمواطنين.
ففي دولة خرجت من القطيعة بين الحاكم والمحكوم، تصبح هذه المجالس البنية الأهم لتجسير هذه الهوة، وتصحيح المسار من دون هزّات مدمّرة.
خاتمة الفصل
في مشروع النهضة، لا نترك النقد للمصادفة، ولا نجعل الاعتراف بالخطأ خيارًا أخلاقيًا فقط، بل نُؤسس له بنية مستقلة، دائمة، علنية، وآمنة.
إن مجالس تقييم السياسات ليست فقط ضمانة رقابية، بل تعبير صريح عن نضج الدولة، عن رغبتها في أن تُصحّح نفسها من داخلها، لا أن تُترك للانهيار ثم تُعاد صياغتها من خارجها.
وبقدر ما ننجح في جعل هذه المجالس ممارسة دورية مؤسساتية، بقدر ما نكون قد وضعنا أولى لبنات الحماية الذاتية للدولة السورية الجديدة، وجعلنا السيادة ليست فقط في يد الحاكم، بل أيضًا في عين المراجع.