web analytics
القسم الخامس عشر – الباب الأول

الفصل الأول النهضة السورية

من الحلم المعرفي إلى الفعل التاريخي

مقدمة الفصل

لم تكن النهضة السورية مجرّد ردّ على انهيار، ولا مجرد بديل عن نظام سقط، بل كانت دومًا كامنة كاحتمالٍ مقموع، تحت ركام من الخوف، والإنكار، والتزييف.

إنها ليست لحظة طارئة في تاريخ شعب، بل امتداد لصمت طويل، كان ينتظر معنى.

وحين سقطت السلطة ولم تنهض الدولة، لم يعد سؤال النهضة خيارًا نظريًا، بل ضرورة وجودية، لا تستقيم الدولة الجديدة من دونه، ولا يُستعاد المجتمع إلا عبره.

في زمنٍ انفجر فيه الواقع وتبخّرت الشرعيات القديمة، لم يعد يكفي أن نحلم بالخلاص، بل أن نُعيد بناء المعنى نفسه.

ومن هنا، فإن هذا الفصل لا يكرّر فلسفة النهضة التي طُرحت سابقًا، ولا يكتفي بإعادة شرح أبعادها، بل يطرح كيفية تحوّل النهضة من تصور معرفي، إلى مسارٍ تاريخي، يُحوّل التجربة السورية من مأساة إلى نموذج.

أولًا: النهضة كاستجابة معرفية لانهيار المعنى

لم تكن الأزمة السورية أزمة حكم فقط، بل أزمة معنى:
سقطت اللغة الرسمية التي شرعنت الاستبداد،
وتهاوت مفاهيم الوطنية التي احتكرتها السلطة،
وتفككت رموز الدولة، وتحلّلت بنيتها دون أن ينهار فيها فقط النظام بل أيضًا الوهم الذي بناه.

في مواجهة هذا الفراغ، لم تكن الحاجة إلى مشروع سياسي، بل إلى إعادة تأسيس المعرفة السياسية من الصفر، على قاعدة لا تكتفي بوصف الألم، بل تنتج فكرًا يُداويه، ويقاومه، ويتجاوزه.

ومن هنا، وُلدت النهضة ليس كبرنامج سلطة، بل كفعل مقاومة معرفية للانهيار، يُعيد ربط السيادة بالكرامة، والسلطة بالمعنى، والمجتمع بالحقيقة.

ثانيًا: من الفكر إلى المشروع تحوّل الوعي إلى خطة

لكنّ المعرفة وحدها لا تصنع دولة.
ولهذا، لم تبقَ النهضة سؤالًا نظريًا، بل تحوّلت إلى مشروع عملي متكامل، يستند إلى:

  1. تفكيك جذور الانهيار السوري تاريخيًا وبنيويًا، دون تبسيط ولا تبرير.
  2. إعادة تعريف الإنسان بوصفه جوهر السيادة، لا مجرد فرد في آلة أمنية.
  3. تصميم نموذج مؤسساتي لا يُقلد الخارج، بل يستخرج خصوصية سوريا من داخلها، من مأساتها، وذاكرتها، وثقافتها.
  4. رسم خطة تنفيذ واقعية متدرجة، تربط الفلسفة بالتشريع، والرؤية بالإدارة، والحق بالآلية.

وهكذا، وُلدت النهضة بوصفها منظومة فكرية–سياسية–قانونية–إدارية–رمزية، لا تختزل الإنسان في دور، ولا الدولة في سلطة، بل تعيد بناء العلاقة بين الطرفين على أساس المشاركة، لا الخضوع.

ثالثًا: من محلي إلى عالمي كونية السؤال لا تعميم النموذج

صحيح أن النهضة السورية تنبع من خصوصية محلية،
لكن الأسئلة التي تطرحها هي أسئلة إنسانية:
كيف تُبنى السيادة من دون استبداد؟
كيف تُصاغ الشرعية من دون سلالة؟
كيف يُصان المجتمع من دون وصاية؟
وكيف تُصمَّم دولة لا تكون نقيضًا لمواطنيها؟

بهذا المعنى، لا تسعى النهضة إلى تصدير نموذج مغلق،
بل إلى تقديم مورد مفهومي عالمي، ينطلق من الألم السوري ليغدو أداة تفكير في العالم:
كما فعلت أوروبا بعد الحرب العالمية،
وألمانيا بعد النازية،
وجنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري.

النهضة السورية تُقدّم سردية مختلفة: لا تقوم على تبرئة الذات، بل على مساءلتها، ولا على انتصار طرف، بل على إعادة تعريف الوطن بوصفه فضاءً مشتركًا لا ملكية حصرية.

رابعًا: التحدي الأكبر الحماية من التفريغ

إذا كان بناء النهضة هو الإنجاز، فإن حمايتها من التفريغ هو التحدي الأخطر:
أن لا تتحوّل إلى شعارات،
أو تُختطف من قبل سلطات جديدة تستبد باسم السيادة،
أو أن تتحول إلى وثائق لا تُمسّ، أو شعائر لا تُراجع.

ولهذا، لا بد أن تبقى النهضة مشروعًا حيًّا، قابلًا للنقد، للتطوير، للتوسعة، لا مقدّسًا مغلقًا.
ولا بد أن تكون النهضة رافعة لكل المهمّشين:
للعامل الذي لم يرَ في يوم عمله سوى الذل،
للمعلّمة التي صارت أجيرة عند أمن الدولة،
للاجئ الذي ضاع بين اللجوء والمخيم،
وللمجند الذي قاتل مجبرًا… باسم وطن لم يُشركه أحد في صياغته.

خاتمة الفصل

النهضة ليست إعلانًا عن انتصار سياسي،
بل محاولة لاستعادة الإنسان من رماد الحرب والسلطة.
وإذا كانت قد بدأت في المعرفة، فإنها لن تُترجم إلا بالفعل،
وإذا وُلدت من الحاجة، فإنها لن تنجح إلا إذا تحوّلت إلى منظومة تفكير وعمل ومسؤولية جماعية.

بهذا فقط،
تصبح النهضة مفتاح التاريخ الجديد لسوريا،
لا نصًا مغلقًا،
بل أفقًا مفتوحًا… على الحرية، والمشاركة، والمعنى.