القسم الخامس عشر – الباب الأول
الفصل الرابع المفهوم التحويلي للعدالة
من الحقوق إلى الكرامة
مقدمة الفصل
في السياق السوري، لم يكن غياب العدالة مجرّد نقص في القوانين، بل اختلال جذري في المعنى.
فالعدالة التي رُفعت كشعار، كانت تُنتهَك يوميًا على يد من صاغوها، والقوانين التي تحدّثت عن المساواة، كانت تُطبَّق بشكل انتقائي يخدم البنية السلطوية ويعيد إنتاج التمييز والتهميش.
ولهذا، لا تكفي الثورة على الطغيان إن لم ترفق بثورة على مفهوم العدالة ذاته: كيف نراها؟ لمن نمنحها؟ وبأي مضمون نُعيد تأسيسها؟ في مشروع النهضة، لا يُكتفى بإعادة توزيع الحقوق، بل يتم الذهاب إلى ما هو أعمق:
تأسيس عدالة تحوّلية، تنطلق من استرداد الكرامة، وتصل إلى إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه جوهر الدولة لا مجرد رقم إداري أو متلقي للقرارات.
أولًا: العدالة في ظل الاستبداد – من القانون إلى الإذلال
العدالة في سوريا لم تكن غائبة بوصفها نصًا، بل كانت حاضرة كمشهد زائف:
- قضاء يُدين الفقير ويُعفي المتنفذ.
- قوانين تحمي الفساد بدلًا من فضحه.
- أجهزة رقابية تُراقب الناس لا السلطة.
- ودستور يُنتهك باسمه كل ما يُفترض أن يضمنه.
هذا الوضع جعل السوريين لا يثقون بالقانون، ولا يحترمون مؤسسات العدالة، لأنها أصبحت أداة للتمييز لا للإنصاف، وسقفًا للطاعة لا مظلّة للحق. ومن هنا، تبدأ العدالة التحويليّة، لا من إصلاح التشريعات فقط، بل من إعادة تأسيس العلاقة الأخلاقية بين الدولة والناس.
ثانيًا: من العدالة التوزيعية إلى العدالة التكوينية
في الأنظمة التقليدية، تُختزل العدالة في “التوزيع”: خدمات، فرص، وظائف. لكن في مشروع النهضة، تُعاد العدالة إلى جوهرها التحويلي، أي كديناميكية تُعيد بناء الفضاء الوطني نفسه بما يضمن إزالة الأسباب البنيوية للظلم.
ويشمل ذلك:
- إزالة المركزية السياسية والإدارية التي عزلت الأطراف.
- تفكيك المنظومات التي راكمت الامتيازات الطائفية أو الأمنية أو الحزبية.
- إعادة توزيع الموارد على أساس الحاجة والمساهمة لا الولاء.
- إعادة صياغة النسيج القانوني بشكل يمنع إنتاج التهميش مجددًا تحت أي ذريعة.
فالعدالة لا تعني فقط أن “يحصل الجميع على نفس الشيء”، بل أن يُعطى كل فرد ما يستحقه ليُصبح حرًا وكريمًا وفاعلًا.
ثالثًا: الكرامة كمقياس للعدالة
في الدولة النهضوية، لا تُقاس العدالة بالنصوص، بل بالأثر. والمقياس الأعمق هو: هل يشعر المواطن بأنه محترم؟ مسموع؟ مُنصف؟ فالكرامة ليست رفاهية، بل شرط وجود سياسي. ولهذا، العدالة الحقيقية تُبنى على:
- الحق في الكلمة، والشكوى، والاعتراض دون خوف.
- المساواة في الكرامة قبل المساواة في النص.
- إعادة الاعتبار لضحايا الظلم، لا فقط عبر التعويض، بل عبر الاعتراف، والمحاسبة، والاحتواء الاجتماعي.
- تحرير مفهوم “العدالة” من المقولات السلطوية التي ربطته بالطاعة أو بالخضوع.
في سوريا الجديدة، لا كرامة بلا عدالة، ولا عدالة إن لم تكن هي نفسها فعل استرداد للكرامة.
رابعًا: العدالة بوصفها عملية مستمرة
العدالة ليست حدثًا ينتهي بصدور حكم قضائي أو صدقة حكومية. هي عملية تحول مستمر، تتجدد بتجدد المجتمع، وتتعمق مع تطور وعي الناس بحقوقهم. وتشمل هذه العملية:
- عدالة معرفية: أن يُنقّى التعليم من التزوير والاستتباع.
- عدالة ثقافية: أن تُحترم كل الهويات دون إنكار أو تهديد.
- عدالة سياسية: أن يكون التمثيل الشعبي حقيقيًا، وتُمنع أي بنية سلطوية من اختطاف القرار.
- عدالة انتقالية: أن يُحاسب من ارتكب الجرائم دون انتقام، وأن يُرمّم النسيج الوطني دون إنكار للذاكرة.
وبذلك، تتحول العدالة إلى نمط حكم، لا مجرد حكم قضائي.
خاتمة الفصل
العدالة التي لا تُعيد الكرامة، ليست عدالة. والدولة التي لا تُبنى على العدالة، ليست دولة بل سلطة مؤقتة بقناع قانوني. وفي سوريا الجديدة، لن تُقاس الدولة بعدد المحاكم، ولا بعدد القوانين، بل بمدى شعور كل فرد فيها بأنه محترم، وآمن، ومُعترف به، ومشارك لا مغيّب.
العدالة في مشروع النهضة ليست وعدًا قانونيًا، بل بوصلة أخلاقية تحدد ما إن كانت هذه الدولة تستحق أن تُسمى وطنًا.