web analytics
القسم الخامس – الباب الثاني

الفصل الحادي عشر المرونة في الجدولة التنفيذية

مراجعة الأهداف دون مساس بالجوهر

مقدمة الفصل

لا توجد خطة قابلة للحياة ما لم تكن قابلة للمراجعة، ولا مشروع نهضوي يمكنه الصمود إذا أُدير بعقلية الصرامة الزمنية العمياء أو الجمود الإجرائي. ففي الحالة السورية، حيث تتقاطع التعقيدات البنيوية مع التغيرات الإقليمية والدولية، تصبح المرونة التنفيذية ضرورة استراتيجية، لا ثغرة تنظيمية.

لكن المرونة هنا ليست تراجعًا عن الالتزام، بل تأكيدٌ عليه بطريقة أكثر ذكاءً. إنها مرونة نابعة من الوعي والسياق، لا من التراخي أو التهاون. تهدف إلى الحفاظ على جوهر المشروع عبر إعادة ترتيب الأولويات، وتكييف الآليات دون المساس بالقيم أو الهدف النهائي.

أولًا: الفرق بين المرونة والانحراف

 الخلط بين المرونة والانحراف هو أحد أخطر الأخطاء التي قد تُقوّض المشروع. ولهذا يؤكد مشروع النهضة على أن:

  • المرونة تعني تعديل الوسائل لا تغيير الأهداف. فالعدالة، مثلًا، تظل مبدأً ثابتًا، لكن أدوات تحقيقها قد تتنوع.
  • المرونة لا تعني تعليق الجدول الزمني، بل إعادة بنائه وفق قراءة دورية للمستجدات والنتائج الواقعية.
  • المرونة لا تُبرر الإخفاقات، بل تمنعها عبر الاستباق والتكيّف.
  • المرونة لا تُدار بقرار فردي، بل بمؤسسات رقابية شفافة تُفسّر للرأي العام دوافع التعديل وحدوده.

بهذه المعايير، تصبح المرونة نظام حماية للمشروع من التجمّد أو الانهيار، لا بوابة للانحراف التدريجي.

ثانيًا: آليات المراجعة الدورية للجدولة التنفيذية

لضمان أن تظل المرونة أداة سيادية لا ذريعة للارتباك، لا بد من إرساء آليات مراجعة مؤسسية، أهمها:

  • تأسيس وحدة داخل مجلس النهضة تُسمى “مكتب الجدولة الاستراتيجية”، تُراجع الخطة الوطنية كل ستة أشهر.
  • وضع مؤشرات أداء كمية ونوعية قابلة للقياس، تحدد مدى التقدّم في كل قطاع، وتُربط بخطط التمويل والتنفيذ.
  • عقد مؤتمرات تقييم وطنية دورية تضم ممثلين عن السلطة التنفيذية، المجتمع المدني، والإدارات المحلية.
  • تمكين المجالس المحلية من إرسال تقارير تقييم واقعية تُغذي عملية المراجعة المركزية.
  • إدراج بدائل مسبقة داخل الخطط الأصلية، تُفعّل تلقائيًا إذا تعذّر المسار الرئيسي.

ثالثًا: حالات تأجيل مبرَّرة وأخرى مرفوضة

 لا بد من التمييز بين التأجيل الذي يحمي المشروع، والتأجيل الذي يفرغه من مضمونه:

  • تأجيل مبرر: تأخير انتخابات محلية بعد كارثة طبيعية؛ إعادة جدولة مشاريع الإعمار عند اكتشاف خلل بنيوي؛ تأجيل قوانين حساسة أثناء مرحلة مصالحة وطنية دقيقة.
  • تأجيل مرفوض: التذرّع بالاستقرار لتأخير إصلاح الأجهزة الأمنية؛ أو تأجيل العدالة الانتقالية بحجة “الوحدة الوطنية”؛ أو تأخير تفكيك المنظومات الاستبدادية بحجة “النضج المجتمعي”.

التأجيل المشروع يُقيِّم الظرف ويُحافظ على الاتجاه، أما التأجيل المرفوض فهو تواطؤ مع التعطيل باسم الحكمة.

رابعًا: ضمانات عدم المساس بجوهر المشروع

مهما تأخرت المراحل التنفيذية أو تغيّرت تفاصيلها، ثمة ثوابت لا يُسمح بالمساس بها:

  • مبدأ خضوع كل سلطة للمساءلة منذ اللحظة الأولى.
  • الالتزام بإلغاء التشريعات التمييزية، وكل ما يشرعن القمع أو الإقصاء.
  • تثبيت الشفافية والمشاركة المجتمعية في كل مراحل القرار والسياسات.
  • إبقاء المجتمع المدني شريكًا نقديًا فاعلًا لا تابعًا إداريًا.

هذه المبادئ ليست مجرد شعارات، بل خطوط حمراء تُشكّل جوهر الشرعية السيادية.

خاتمة الفصل

لا يُقاس نجاح المشروع النهضوي فقط بسرعة التنفيذ، بل بقدرته على الصمود في وجه المتغيّرات دون التفريط بجوهره. ولهذا، فإن المرونة ليست استثناءً، بل منهج تفكير وسياسة تنفيذ. وبين الجمود المُحبِط والتراخي المدمّر، ثمة طريق ثالث: طريق الدولة الواعية التي تعرف متى تُراجع خططها… كي لا تراجع مبادئها.