المجتمع المدني في سوريا
من الفاعلية الوطنية إلى الهشاشة المُدارَة
مدخل تحليلي–تاريخي:
المجتمع المدني ليس واجهةً تنموية،
ولا مجرّد مجموعة جمعيات ونقابات،
بل هو الفضاء الذي يتنفّس فيه المجتمع خارج هيمنة السلطة،
وهو، في جوهره، أحد أعمدة العقد الوطني،
لأنه يمنح المجتمع أدوات الفعل، وأطر التنظيم، ومساحات المبادرة.
وحين يغيب،
أو يُفرَّغ،
أو يُدار من السلطة،
تتحول الدولة إلى وحشٍ وحيد في ساحة فارغة.
في سوريا، لم يُسمَح يومًا لمجتمع مدني حرّ أن يتكوّن،
بل جرى تحجيمه، اختراقه، إعادة تشكيله، توظيفه، ثم تجفيفه.
وكان حضوره باهتًا حين اشتد الظلم،
وغائبًا حين اشتعلت الثورة،
ومأزومًا حين انفجرت البلاد.
ولم يكن ذلك مجرد نتيجة للقمع، بل لانعدام البنية التحتية للفعل المدني، وغياب الرؤية الجماعية الناضجة. فعندما اندلعت الثورة، وجد المجتمع نفسه دون أدوات تنسيق، ولا مؤسسات مستقلة، ولا روافع تمثيلية قادرة على تحويل الغضب إلى فعل منظم. كانت اللحظة أكبر من قدرته، والفراغ أعمق من حماسه.
هذا الفصل لا يدين المجتمع المدني فقط،
بل يُعرّي البنية السلطوية التي صادرته قبل أن يولد،
ويحلل كيف فشلت النخب المدنية في صناعة أدواتها،
وكيف تواطأت المؤسسات المهنية والنقابية – أحيانًا – في ترويض الشعب بدل تمثيله.
ولماذا فشل في لحظة الثورة تحديدًا، رغم انتظاره طويلًا.
أولًا: المجتمع المدني في التاريخ السوري – البدايات المُجهَضة
بعد الاستقلال، ظهرت مؤشرات جنينية لمجتمع مدني ناشئ:
- نقابات مهنية حقيقية.
- اتحادات طلابية حرة.
- أحزاب لها ذراع شعبي حقيقي.
- مبادرات أهلية مجتمعية متعدّدة.
لكن هذه البذور لم تتحوّل إلى بنية مؤسسية راسخة،
لأسباب متعددة:
- الانقلابات السياسية قطعت المسار الديمقراطي،
- الانقسامات الحزبية أضعفت الروح الوطنية الجامعة،
- القلق من “الفوضى” دفع حتى بعض النخب إلى تبرير القبضة المركزية.
وهكذا، دخلنا مرحلة ما قبل البعث،
بمجتمع مدني هش،
غير متجذّر،
لم يُمنَح الوقت الكافي ليتحوّل إلى “رافعة تمثيلية”،
بل ظلّ يُنظر إليه كترف، لا كضرورة وطنية لتوازن السلطة.
ثانيًا: البعث وسحق الفضاء المدني – من الهيمنة إلى التذويب
مع استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963،
دخل المجتمع المدني طور “التحنيط المؤسسي”:
- تم تأميم النقابات وتحويلها إلى أدوات تعبئة سياسية.
- أُعيد تشكيل الجمعيات الأهلية ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدمية.
- أصبحت المؤسسات الثقافية تحت إشراف الأجهزة الأمنية.
- ومُنعت أي مبادرة مستقلة لا تخضع لـ”التوجيه السياسي”.
تمّ إلغاء المجال المدني بوصفه حقلًا مستقلًا،
وبدل أن يكون وسيطًا بين الدولة والمجتمع، حوّله النظام إلى ذراع تعبئة حزبيّة مراقَبة.
وأصبح كل نشاط “اجتماعي” إما حزبيًا، أو أمنيًا، أو ممنوعًا.
وهكذا، فُرغت النقابات من معناها،
وأُجهضت الجمعيات،
وصار كل تعبير مدني يُعامَل كـ”محاولة للتمرد”.
حتى الإغاثة، كانت تحتاج “موافقة أمنية” و”ضوءًا أخضر سياسيًا”.
ثالثًا: هشاشة البنية وضعف النخب – المجتمع المدني حين خاف من نفسه
حين بدأت مؤشرات الاضطراب الاجتماعي في التسعينيات،
ثم تسرّبت رياح “ربيع دمشق” بعد عام 2000،
ظهر جيل جديد من الناشطين والمثقفين،
لكنهم دخلوا فضاءً فارغًا، لا مؤسسات فيه، ولا قواعد تنظيمية، ولا ذاكرة نضالية مدنية.
- النخب المدنية عجزت عن بناء سرديتها،
- المبادرات كانت فردية، لا مؤسسية، محكومة بشروط الطوارئ أكثر من كونها متحرّرة بوعيٍ تنظيمي ناضج.
- الحراك المدني تم اختراقه بسهولة،
- والخطاب ظل “مستعيرًا”، لا متجذرًا.
حتى في لحظات الذروة،
لم تستطع البنى المدنية تقديم بديل منظم.
بل سرعان ما تفتّتت، اختلفت، أو تحوّلت إلى جزر مغلقة،
خاصة في الخارج، حيث انفجرت آلاف المبادرات… بلا جسم جامع.
رابعًا: تفريغ الفضاء المدني في زمن الحرب – من الموت البطيء إلى التلاعب الدولي
مع اندلاع الثورة عام 2011،
ظنّ البعض أن المجتمع المدني سيعود،
وأنه سيكون السند الأخلاقي والتنظيمي للثورة،
لكن ما حصل كان كارثة مضاعفة:
- الداخل تم قمعه واعتقال نشطائه أو تهجيره.
- الخارج شهد طوفانًا من التمويل المشروط، والرؤى الغربية الجاهزة.
- وظهرت آلاف المنظمات المسجلة شكلًا، والمعدومة معنى.
غابت الفلسفة،
وغابت الرؤية،
وحضرت المشاريع.
وبات المجتمع المدني يُستدرَج إلى صراعات سياسية،
ويُقحَم في مشاريع فوقية لا تُعبّر عن دينامية الداخل، بل عن تصوّرات الدول المانحة.”
ويُستخدم أحيانًا كواجهة لأجندات خارجية،
وفقد الثقة من الجمهور،
الذي رآه إما صامتًا… أو مأجورًا… أو غائبًا عن المعركة الحقيقية.
خامسًا: المجتمع المدني كرافعة للنهضة – شروط الاستعادة وإعادة البناء
النهضة لا تبنى من فوق،
ولا تُفرض بالدستور فقط،
بل تحتاج مجتمعًا مدنيًا فاعلًا، مستقلًا، نقديًا، حيًا.
لكن هذا يتطلب شروطًا:
- تحرر المجتمع المدني من وصاية السلطة والمعارضة معًا.
- إعادة تعريف دوره بوصفه ضامنًا للمشاركة، لا مجرد آلية خدمة.
- تكوين شبكة مدنية مستقلة تمثّل الداخل والخارج، ولا تستنسخ الاستقطابات.
- إعادة تأهيل النخب المدنية معرفيًا وفلسفيًا، لتكون قادرة على البناء لا فقط على النقد ومنفتحة على الداخل لا منسحبة في نُخبَويتها.
- الانطلاق من القاعدة – من حاجات الناس وتقاليدهم – لا من شروط الممولين أو تصورات النخبة المعزولة.
الخاتمة:
غياب المجتمع المدني عن لحظات التحوّل الكبرى في سوريا،
لم يكن فقط بفعل القمع،
بل بفعل هشاشة البنية، وضعف التصور، وسرعة الاستقطاب.
ومشروع النهضة لا يمكن أن يولد في فراغ،
بل يحتاج إلى بنية مدنية تعرف نفسها، وتعرف حدودها، وتؤمن بأن “المجتمع هو السيادة البديلة حين تغيب الدولة“.
فمن دون مجتمع مدني فعّال،
تبقى الثورة هتافًا،
والحرية شعارًا،
والدولة مجرّد صدى لفراغ كبير.
“فالمجتمع المدني ليس طرفًا إضافيًا في مشهد الدولة، بل أحد شروط السيادة المجتمعية حين يُختطف القرار السياسي.”