التقدمة الرابطة بين القسم الثاني والثالث
المحور الثاني السلطة تحت المجهر
مساءلة المعنى لا الاكتفاء بالأداء
في السياقات التي تنشأ بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية، غالبًا ما تتحول السلطة الجديدة إلى جهاز إداري يُقيَّم وفق كفاءته التنفيذية: هل أنجز؟ هل نظم المرور؟ هل دفع الرواتب؟ هكذا تُختزل السياسة إلى وظيفة، ويُفصل الأداء عن المبدأ، وتُستبدَل أخلاقيات الحكم بقياس النتائج وحدها.
لكن هذا الفصل ليس بريئًا. بل هو آلية رمزية تُفرغ الحكم من بعده السيادي والأخلاقي، وتحصر الشرعية في مؤشرات الأداء، دون أن تُسائل الغاية أو القيمة التي يُدار بها المجتمع.
في المقابل، لا يُمكن لمشروع نهضوي أن يرضى بهذا المنطق. فالمطلوب ليس مجرد سلطة قادرة على الإنجاز، بل سلطة تعبّر عن رؤية جديدة للعالم، للمجتمع، وللمعنى.
- السلطة ليست إدارة فقط، بل إنتاج للمعنى
كل سلطة تفرض سرديتها الخاصة للواقع: ما هو ممكن، من هو المواطن، وما هو المقبول والمستبعد. من هنا، لا يُقاس الحكم فقط بمدى تنظيمه للإدارة، بل بقدرته على التعبير عن قيم الحرية والكرامة، لا احتكارها. فالحاكم ليس موظفًا فقط، بل صانع رمزي لحدود الحياة العامة.
- الأداء لا يبرّر المعنى
أن تكون السلطة أقل فتكًا من سابقتها لا يعني أنها صالحة. المقارنة بالتجربة الأسوأ لا تكفي. السؤال الجوهري هو: هل تحمل هذه السلطة تحوّلًا في منطق الحكم؟ هل تمثل نقلة أخلاقية حقيقية؟ أم أنها تعيد إنتاج الجهاز القديم بلغة جديدة؟
- المهم ليس من يحكم، بل لماذا وكيف
النهضة لا تُبنى على تغيير الأفراد، بل على تغيير المفهوم. السلطة لا تُبرَّر بالخطر الخارجي، ولا تُشرعن بالإرث أو القوة. بل تُسائل على أساس تصورها للدولة، وموقع المواطن فيها، وعلاقتها بالكرامة والحق.
- السيادة المؤجلة فخّ دائم
يُقال أحيانًا: “نؤجل الحرية قليلًا”، أو “نؤمن الحقوق تدريجيًا”، أو “نحتاج إلى وقت لترسيخ الكرامة”. هذه اللغة خطرة. لأنها تخلق نظامًا معلّقًا، تُلبَّس فيه الانتهاكات لبوس الوطنية، ويُسكت فيه النقد باسم الاستقرار. وكل تأجيل للقيمة، هو بداية انهيارها.
خلاصة المحور:
لا يقاس الحكم الحقيقي بعدد الطرق المعبّدة ولا بسرعة إصدار المعاملات، بل بالمعنى الذي يمنحه لوجود الدولة، ولعلاقة الإنسان بها. المشروع النهضوي، إذا لم يُسائل السلطة على مستواها القيمي، سيسمح بتسلل الاستبداد من نوافذ الواقعية، ولو خرج من أبواب الثورة.