web analytics
القسم الأول

الفصل الثاني عشر الحياة السياسية والأحزاب في سوريا

من الوعد التعددي إلى الاستئصال الكامل

مدخل فلسفي–سياسي:

لا يمكن أن تقوم دولة دون سياسة، ولا يمكن أن تستقيم السياسة دون حرية، ولا حرية بلا تعدد.

فالسياسة هي التعبير الناضج عن الصراع السلمي بين الرؤى،
وهي الآلية التي تسمح بتحويل الطموح الفردي إلى مشروع جماعي.
أما الأحزاب، فهي التنظيم الحي الذي يُترجم الأفكار إلى مسارات تغيير،
ويسمح للأمة أن تُنتج قياداتها، وتختبر بدائلها، وتُصحّح مسارها.

لكن حين يتم اختزال السياسة في الولاء،
ويُفرّغ الحزب من جوهره الفكري،
وتُمنع المعارضة،
وتُحرَّف الكلمات نفسها،
فإن الحياة السياسية تتحول من مجال للفعل… إلى مسرح للتزييف.

وفي سوريا، لم يُجهَض التعدد فقط،
بل جرى قتل السياسة في معناها،
ومحو الفعل الجماعي،
وتشويه صورة الحزب في الوعي،
حتى صار العمل السياسي يُقارَن بالانتهازية،
والأحزاب تُعامَل كمجرد إكسسوار رمزي” في مسرح بلا جمهور ولا نص.

أولًا: التعددية السياسية بعد الاستقلال – وعد لم يكتمل

عرفت سوريا تجربة حزبية مبكرة واستثنائية في الأربعينيات والخمسينيات:

  • حزب الشعب، الحزب الوطني، الحزب الشيوعي، البعث، الإخوان المسلمون، الاشتراكيون العرب…
  • نقاشات برلمانية نشطة.
  • انتخابات نسبية الحضور والنزاهة.
  • قوى سياسية متباينة تعكس تنوّع المجتمع.

لكن رغم الحيوية الشكلية، كانت التعددية هشّة:

  • لم تُبنَ على مؤسسات راسخة،
  • لم ترتكز على مشروع وطني متكامل،
  • ارتبطت غالبًا بالزعامات الشخصية أو الخلفيات الطائفية والعشائرية.
  • وسرعان ما انهارت أمام سطوة العسكر، والانقلابات المتتالية.

ففي لحظة فارقة، انقلب الجيش على السياسة،
ثم انقلبت السياسة على نفسها.

ثانيًا: البعث وصناعة الحزب القائد – نهاية السياسة وبداية الحقبة الأمنية

مع انقلاب 8 آذار 1963،
دخلت سوريا عصر “الحزب الواحد”،
الذي لم يكن حزبًا سياسيًا،
بل أداة تنظيمية بيد سلطة عسكرية أمنية.

  • أُقصيت جميع الأحزاب الأخرى أو تم تدجينها ضمن “الجبهة الوطنية التقدمية”.
  • أُعيد تعريف السياسة بوصفها انخراطًا في “التنظيم”، لا في الفكرة.
  • تمّت عسكرة البعث من الداخل.
  • وتحوّل إلى ذراع تعبئة جماهيرية، لا حقل صراع فكري أو سياسي.

كل ما يخالف “القيادة التاريخية” صار خيانة.
وكل اختلاف أصبح “انشقاقًا”.
وتم تحنيط البنية الحزبية عبر:

  • المؤتمر العام المؤبد،
  • المكتب السياسي المغيَّب،
  • و”القائد الأبدي” الذي لا يُنتخَب بل يُبجَّل.

وبذلك، قُتلت السياسة مرتين:
مرة على يد العسكر، ومرة على يد الحزب.

ثالثًا: هشاشة الأحزاب المعارضة – بين الخوف والتشظي

في ظل القمع، تشكّلت أحزاب معارضة في الداخل والخارج،
لكنها عانت من ثلاث علل مزمنة:

  1. الضعف البنيوي: لم تستطع بناء قاعدة شعبية فعلية بسبب القمع وانعدام الحريات.
  2. الانقسام الداخلي: النزاعات الشخصية والإيديولوجية عطّلت بناء كتلة موحّدة.
  3. الاغتراب الجماهيري: لم تستطع التعبير عن هموم الناس بل ظلت تكرّر شعارات كلاسيكية.

ثم جاءت الثورة لتكشف:

  • أن الأحزاب كانت إما عاجزة… أو غائبة… أو متأخّرة عن الحدث.
  • أنها فقدت المبادرة، وتحوّلت إلى رد فعل.
  • وأن الخطاب السياسي المعارض لم يرتقِ إلى مستوى الحراك الشعبي.

وهكذا، فشلت الأحزاب في أن تكون رافعة سياسية للثورة، وأدى هذا العجز إلى ترك الفضاء السياسي شاغرًا، فتقدّمت الفصائل المسلحة والأجندات العابرة للحدود لملئه.

مثلما فشلت الأحزاب الحاكمة من قبل في أن تكون أدوات بناء الدولة.

رابعًا: غياب النظرية السياسية الوطنية – العجز عن إنتاج سردية جامعة

سوريا عرفت الأحزاب،
لكنها لم تُنتج نظرية سياسية وطنية جامعة.

  • القومية العربية لم تحتمل التعدد.
  • الشيوعية انهارت مع سقوط المعسكر الشرقي.
  • الإسلام السياسي فشل في تقديم مشروع جامع يتجاوز الهُويات.
  • والليبرالية لم تجد بيئة حاضنة في ظل التهميش الثقافي.

وبذلك، بقي الخطاب السياسي السوري “مستعارًا” لا مولودًا من الأرض.
إما نُسخة من الماركسيات،
أو استعارات قومية،
أو تكرارات من تجارب إقليمية.

لم تُصغ رؤية وطنية قادرة على التوفيق بين التعدد والتمثيل، بين الهوية والانفتاح، وبين الخصوصية والكونية.

ولم تتأسس فلسفة سياسية سورية حقيقية،
تجمع بين الخصوصية والتجدد،
وتنطلق من فهم الواقع بدل محاكاة الخارج.

خامسًا: ارتدادات غياب السياسة – من الفعل إلى الانفجار

حين تغيب السياسة،
لا يختفي الصراع، بل يخرج من المؤسسات إلى الشوارع، ومن الأحزاب إلى السلاح، ومن الأفكار إلى الانفجارات.

وهذا ما حصل:

  • اختنقت الحياة السياسية،
  • فاختنق التعبير السلمي،
  • فخرج المجتمع من النوافذ بدل الأبواب،
  • وتحولت الثورة إلى صراع مفتوح بلا أفق تمثيلي.

غياب الأحزاب القوية سمح بانفلات الفصائل،
وانعدام النظرية فتح الباب أمام الخطابات المتطرفة،
وتحوّلت سوريا إلى ساحة لكل شيء… إلا السياسة.

خاتمة الفصل:

الحياة السياسية السورية لم تمت وحدها،
بل قُتلت بتواطؤ بين العسكر والحزب، وبصمت المعارضة، وبعجز النخبة، وبفقر السردية.

ولذلك، فإن النهضة لا يمكن أن تُبنى دون إعادة إحياء الحياة السياسية لا كديمقراطية شكلية، بل كمنظومة تنظيم للفعل الجماعي.

فالحزب، في مشروع النهضة، ليس غاية، بل وسيلة لتنظيم الإرادة الشعبية وصونها ضمن منظومة حيوية تعددية.

يجب أن نُعيد المعنى للفكرة،
والاحترام للحوار،
والشرعية للتنظيم،
والتعدد للهوية السياسية،
وأن نُنتج نظريتنا الوطنية كما نُنتج نهضتنا:
من الأرض… وللأرض.