القسم الأول
الفصل السابع عشر الأمن في سوريا
من الحماية المجتمعية إلى القمع المنهجي
مدخل فلسفي–سياسي:
في أصل المفهوم،
الأمن هو شعور إنساني سابق على الدولة،
يولد من العلاقة بين الإنسان ومحيطه،
ومن الثقة المتبادلة داخل الجماعة،
ثم يُفترض أن الدولة جاءت لاحقًا لتوسيع هذا الشعور، لا لمصادرته.
لكن في سوريا، كما في سائر الأنظمة السلطوية،
تحوّل الأمن من مجالٍ لحماية الإنسان،
إلى مجالٍ لحماية السلطة من الإنسان.
وصار الجهاز الأمني لا يعمل على منع الخطر الخارجي،
بل على إنتاج الخوف الداخلي،
وصناعة خطرٍ دائم اسمه “المواطن”.
أولًا: البنية الأمنية للدولة السورية – من الأجهزة إلى الدولة داخل الدولة
منذ انقلاب البعث عام 1963،
تم تأسيس ما يمكن وصفه بـ”دولة أمنية فوق الدولة الإدارية”.
فجُرّدت المؤسسات من صلاحياتها،
وحلّ محلّها نظام أمني متعدّد الرؤوس، لكنه موحّد الوظيفة:
- أمن الدولة
- الأمن السياسي
- الأمن العسكري
- أمن القوات المسلحة
- شعبة المخابرات الجوية
- وكلها تعمل بتقاطع وتنافس، ولكن بتنسيق سلطوي كامل.
وهكذا، نشأت بنية أمنية لا تخضع للمؤسسات، بل تُخضعها، ولا تعترف بالقانون، بل تضعه في خدمتها.
هذه البنية لم تكن وظيفتها مواجهة الجريمة أو الإرهاب،
بل إخضاع المجتمع،
زرع العيون في كل مؤسسة،
وتفكيك الثقة بين الأفراد.
ثانيًا: الأمن كمقدّس سياسي – تمجيد الجهاز وتخوين الضحية
في العقل البعثي–الأسدي،
لم يكن الأمن وظيفة، بل عقيدة.
تمّ تحويل “رجل الأمن” إلى رمز وطني فوق المساءلة،
وجُعلت مؤسسات الأمن “خطًا أحمر” لا يُقترب منه،
وأُنتجت ثقافة كاملة قائمة على:
- التبجيل،
- الطاعة،
- التهيّب،
- والقبول بالظلم كقَدَرٍ وطني.
في المقابل، كان كل مَن يتعرّض للأمن، ولو ظلمًا، يُعامل كخائن.
وهكذا، تم تحويل القمع إلى شرف،
والضحايا إلى مجرمين،
والمجتمع إلى ساحة رعب، حتى بات الخوف نفسه سياسة دولة، يُنتَج ويُدار، لا يُكتشف أو يُنكر.
ثالثًا: نتائج الأمن السلطوي – تفكيك المجتمع لا حمايته
لم ينتج هذا النموذج الأمني سوى:
- عسكرة الحياة اليومية: من الجامعة إلى النقابة إلى المخفر.
- هدم الثقة المجتمعية: حيث لا أحد يجرؤ على الكلام أمام أحد.
- كسر الفضاء العام: فلا مقاهي نقاش، ولا منابر حرة، ولا مؤسسات مستقلة.
- تأليه الدولة: بوصفها “الحامي”، رغم أنها الجلّاد.
- تدجين المعارضات: عبر القمع، الاختراق، التهشيم، والتوظيف.
- تفريغ العدالة: فلا قانون يقيّد سلطات الضابط، ولا قضاء يعلو على تقرير أمني يُرفع بالهوى أو الانتقام.
رابعًا: الأمن خلال الحرب – من قمع المجتمع إلى تفتيته
بعد عام 2011، تحوّل الجهاز الأمني من أداة إخضاع، إلى أداة تفتيت.
فقد عمل على:
- إنتاج الطائفية والفرز السكاني.
- دعم ميليشيات محلية، ثم قمعها بعد استخدامها.
- إعادة تشكيل الشبكات العائلية والاجتماعية لصالح الولاء.
- نشر الخوف في مناطق سيطرته، والفوضى في مناطق خصومه.
- التحالف مع أجهزة أجنبية (إيرانية، روسية، وغيرها) لإدارة “الأمن السيادي” كما يُسمّى زيفًا.
وهكذا، لم يعد الأمن مجالًا للسيادة،
بل مساحة للتفويض، والتخادم، والقمع المشترك.
فكانت الأجهزة الأمنية هي من تُسلّح، ثم تُدين، وهي من تُشعل، ثم تتذرّع بالإطفاء.
خامسًا: الأمن كمفهوم سيادي في مشروع النهضة – من الدولة القامعة إلى الدولة الحامية
في فلسفة النهضة السورية،
لا يُعاد تأسيس الأمن من خلال “إصلاح الأجهزة”،
بل من خلال إعادة تعريف المفهوم ذاته:
- الأمن ليس قمعًا، بل طمأنينة.
- ليس تبعية، بل سيادة.
- ليس تهديدًا دائمًا، بل حماية دائمة.
- ليس أداة سلطة، بل ضمانة إنسان.
ولهذا، ينبغي أن يُعاد بناء مفهوم الأمن على قواعد جديدة:
- شرطة مدنية خاضعة للقانون.
- تفكيك الأجهزة الأمنية التي تعمل بلا مرجعية دستورية.
- إخضاع الأمن لمساءلة تشريعية وشعبية مستقلة.
- تحقيق العدالة الأمنية، لا العقاب السياسي.
- إدماج المتضررين في عملية بناء الأمن، لا إقصاؤهم.
- فصل الأمن عن العقيدة الطائفية، والمصلحة الحزبية.
لأن أمنًا لا يُحاسب، لا يحمي؛
وأمنًا لا يُمثّل الناس، لا يصون الوطن،
بل يُعيد تدوير الخوف بأسماء جديدة.
خاتمة الفصل: لا أمن دون عدالة… ولا عدالة دون مساءلة
إن ما جرى في سوريا طوال عقود،
لم يكن مجرد “شطط أمني”،
بل نموذج مدروس لتفريغ الإنسان من أمانه الداخلي،
ولتحويل البلاد إلى شبكة مراقبة،
والمجتمع إلى حقل ألغام.
وحين يصبح الأمن نفسه خطرًا، تُختطف السيادة من جذورها،
ويتحوّل العقد الوطني إلى كمين دائم للناس.
في مشروع النهضة، لا نقبل بترقيع هذا النموذج،
بل نسعى إلى تجاوزه بالكامل،
بتأسيس أمن مبني على القانون،
وعلى كرامة الإنسان،
وعلى الثقة المتبادلة،
حتى يُصبح الأمن شعورًا نابعًا من الداخل، لا خوفًا مفروضًا من الخارج.