web analytics
القسم الأول

الفصل العشرون الدساتير السورية من نصوص الاستقلال إلى إعلان 2025

(تشريح فلسفي–تاريخي لمسار الشرعية الدستورية والانهيار السياسي–القانوني)

مدخل تحليلي–فلسفي:

ليس الدستور مجرد وثيقة قانونية عليا،
بل هو المرآة الصافية التي تعكس علاقة السلطة بالمجتمع،
ورؤية الدولة لمواطنيها،
والإطار الذي تنتظم فيه الشرعية،
وتُحدد من خلاله الوظيفة الأخلاقية والقانونية للنظام السياسي.

وفي سوريا، لم يكن الدستور يومًا نتاج عقد اجتماعي حرّ،
بل ظلّ نتاجًا فوقيًا تسلطيًا، يُكتب لإنتاج السلطة لا لضبطها،
ويُفرَض كأداة هندسة للعلاقات السياسية والاجتماعية،
وليس كضامن لحقوق الإنسان، ولا كآلية توازن للسلطات.

أولًا: دستور عام 1950 – محاولة ولادة عقد اجتماعي وطني

بعد الاستقلال عن فرنسا،
شكّل دستور عام 1950 أول محاولة فعلية لصياغة عقد دستوري حقيقي.

  • تمت صياغته من قبل جمعية تأسيسية منتخبة،
  • أكد على الحريات العامة،
  • وفصل السلطات،
  • وحدّد ولاية السلطة التنفيذية.
  • واحتوى على مبادئ مدنية وديمقراطية متقدمة نسبيًا.

لكن هذه الوثيقة لم تُكتب في بيئة مستقرة،
بل في ظل صراع القوى،
وتنازع العسكر والسياسيين،
وضعف مؤسسات الرقابة.
فسقط الدستور سريعًا مع أول انقلاب،
ليُفتح الباب أمام مسار طويل من تقويض الشرعية الدستورية.

ثانيًا: دساتير الانقلابات – من وثائق شرعية إلى نصوص هيمنة

ما بين عامي 1951 و1971،
شهدت سوريا سلسلة من الدساتير المؤقتة والتعليق الدستوري،
ترافق مع الانقلابات العسكرية التالية:

  • انقلاب أديب الشيشكلي (1951): علّق العمل بالدستور، وأصدر إعلانًا سلطويًا.
  • وحدة 1958 مع مصر: تم تعليق الدستور، وصياغة دستور الوحدة الذي ألغى التعدد السياسي وأسس لنظام الحزب الواحد.
  • انقلاب 1963 البعثي: أوقف العمل بالدستور مجددًا، وأصدر “المرسوم 1” الذي دشّن عصر “الحكم الثوري”.

في هذه الفترة، تحوّل الدستور من وثيقة شرعية… إلى أداة تبرير لحكم القوة.

ثالثًا: دستور 1973 – من الشرعية القانونية إلى التقديس السياسي

جاء دستور 1973 بعد تثبيت حافظ الأسد لسلطته المطلقة.
ورغم أنه قُدّم كوثيقة دائمة، إلا أنه كان:

  • يُكرّس سلطة مطلقة لرئيس الجمهورية،
  • يُضفي شرعية مطلقة على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع (المادة 8)،
  • يُضعف استقلال السلطة القضائية،
  • يُفرغ البرلمان من وظيفته التشريعية–الرقابية،
  • ويُبقي جميع الصلاحيات السيادية بيد رئيس الدولة، بدون مساءلة أو تحديد فعلي للولاية.

لقد صيغ دستور 1973 بوصفه أداة هندسة سلطوية تعيد إنتاج مفهوم الزعيم الأوحد،

وتحوّل الشعب إلى كيان رمزي فاقد للفاعلية السياسية.”

وهكذا، تحول الدستور من نص قانوني إلى غطاء لتأبيد السلطة،
وصار أشبه ببيان سياسي، لا عقد اجتماعي،
ومجرد واجهة تجميلية لدولة الحزب الواحد، لا أداة تنظيم لدولة القانون.

رابعًا: تعديلات 2012 – تعويم النظام لا إصلاحه

بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011،
أعلن بشار الأسد تعديل الدستور وإقرار دستور جديد في 2012،
لكن هذا الدستور لم يكن سوى:

  • عملية “تجميل شكلية، أُبقيت فيها الصلاحيات الكاملة بيد الرئيس.
  • تم حذف المادة 8 نظريًا، لكن أُبقي على هيمنة السلطة التنفيذية فعليًا.
  • بقي الجيش أداة بيد الرئيس، لا تحت سلطة برلمانية.
  • أُضعفت الرقابة القضائية والدستورية.
  • لم تُنص صراحة أي ضمانات للمساءلة أو العدالة الانتقالية.

 فبدلًا من أن يُجسّد لحظة تصحيح تاريخي،
تحوّل دستور 2012 إلى أداة لتمديد عمر الاستبداد،
وتثبيت سلطة القوة تحت واجهة “الاقتراع العام”. 

خامسًا: الإعلان الدستوري لعام 2025 – إعادة إنتاج السيطرة بلغة مدنية

بعد سقوط النظام في دمشق،
وصعود السلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع،
صدر إعلان دستوري مؤقت في عام 2025،
قدّم نفسه بوصفه “مرحلة انتقالية لبناء الجمهورية الجديدة”.

لكن هذا الإعلان، وفق ما تم تحليله لاحقًا في دراسات متخصصة،
جاء مُحمّلاً بإشكاليات خطيرة:

  • تركيز شديد للسلطة بيد الرئيس الانتقالي،
  • غياب واضح لصلاحيات البرلمان الشعبي،
  • استخدام اللغة المدنية لإخفاء بنية دينية راديكالية،
  • تغييب الحقوق الأساسية للأقليات،
  • ضعف ضمانات المحاسبة والفصل بين السلطات،
  • استمرار نهج “الشرعية الثورية” بدل الانتقال إلى شرعية قانونية تعاقدية.

 وهكذا، يمكن القول إن هذا الإعلان لم يخرج عن منهجية إنتاج “دساتير فوقية،
وإنه أعاد إنتاج جوهر الأزمة السورية… بلغة جديدة.

وما بدا للبعض بداية جديدة، كان في جوهره امتدادًا لصيغة قديمة، تستبدل خطاب البعث بخطاب شرعي–مدني شكلي، دون أي تغيير في آليات السيطرة.

سادسًا: تشريح فلسفي للمسار الدستوري السوري – هل كُتب لنا دستور يومًا؟

بقراءة المسار كاملاً، نصل إلى الحقيقة المؤلمة:
لم تُنتج سوريا منذ استقلالها دستورًا وطنيًا قائمًا على الإرادة الحرة والتمثيل الشعبي الكامل.

كل الدساتير كانت:

  • إما انعكاسًا لتحالف القوة لا العقد،
  • أو أداة هندسة سلطوية،
  • أو واجهة للشرعية الزائفة،
  • أو نتيجة لحظات فوقية مفروضة.

وبالتالي، فإن أزمة الدستور في سوريا ليست نصًّا يجب تعديله،
بل هي أزمة مفهوم كامل للشرعية والتمثيل والسلطة والسيادة.

خاتمة الفصل: لا مشروع نهضة دون عقد دستوري وطني حر

في مشروع النهضة السورية،
لن نُعيد إنتاج نموذج “الدستور المفروض”،
ولا “الشرعية المؤقتة إلى ما لا نهاية”،
بل نُؤمن أن:

  • العقد الدستوري هو نقطة الانطلاق الحقيقية لبناء الدولة،
  • الدستور لا يُكتب في القصر، بل في ضمير المجتمع،
  • ولا يُصاغ من قِبل النخبة فقط، بل يُعبّر عن إرادة الشعب كله.

ولهذا، فإن معركة الدستور ليست معركة فقه قانوني،
بل معركة وعي، وكرامة، وحق،
هي قلب مشروع النهضة، لا ملحق له.

فلا نهضة بلا شرعية، ولا شرعية بلا تمثيل، ولا تمثيل بلا دستور يولد من الشعب، لا يُفرض عليه.”