القسم الثاني – الباب الثاني
الفصل الرابع عشر الصحة في مشروع النهضة
من الامتياز إلى الحق
مدخل فلسفي–اجتماعي
الصحة ليست خدمةً تُمنح بمكرمة،
ولا امتيازًا اجتماعيًا يُشترى بالمال أو القرب من السلطة،
وليست أيضًا سلعةً في سوقٍ بلا ضوابط.
بل هي حقٌّ إنساني أصيل،
وجزء من الكرامة،
وشَرط من شروط العدالة الاجتماعية.
في سوريا، لم تكن الصحة كذلك.
فقد اختُزلت في نظام هش،
يعتمد على الولاء لا الكفاءة،
ويُدار بمنطق التمييز لا الرعاية،
ويتهاوى في الأزمات كما في السِلم،
لأنه لم يُبنَ يومًا بوصفه أداة لصون الحياة،
بل كواجهة خدمية تُستخدم للتلميع… وتُهمل في العمق.
ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يقدّم برنامج إصلاح صحي فقط،
بل يُعيد فلسفة الصحة إلى مكانها الصحيح:
أن تكون الإنسان أولًا… لا النظام،
الكرامة أولًا… لا الربح،
الحق أولًا… لا الامتياز.
أولًا: تشريح النظام الصحي السوري – من المركز إلى الهامش
من خلال قراءة نقدية للواقع الصحي السوري، كما ورد في القسم الأول، يتضح أن:
- المستشفيات الحكومية متهالكة، تعاني من نقص الكوادر والتمويل، وتخضع للفساد والمحسوبية.
- الخدمات الطبية موزّعة بشكل غير عادل: تركّز في المدن الكبرى وتغيب عن الأرياف والمناطق الطرفية.
- الطب الخاص انتشر كبديل فاسد، يُقدم الخدمة مقابل أثمان باهظة، ويُقصي الفقراء.
- التأمين الصحي شكلي أو معدوم، والخدمات الوقائية مهملة.
- الصحة النفسية خارج الاعتراف المؤسسي، وكأن الإنسان جسد فقط.
- الأوبئة والحروب كشفت هشاشة البنية وغياب خطة وطنية للطوارئ.
هذه المنظومة لا تُنتج رعاية… بل تُنتج موتًا صامتًا على الأطراف،
وانهزامًا داخليًا في المركز.
ثانيًا: الصحة بوصفها حقًا وجوديًا – لا ترفًا تنمويًا
في مشروع النهضة، نُعيد تعريف الصحة على النحو التالي:
الصحة هي الحالة المتكاملة لسلامة الجسد والنفس والعقل والعلاقات الاجتماعية،
وهي حقٌ فردي–جماعي، تلتزم به الدولة بوصفه ضمانة للكرامة،
وليست خدمة تُخضعها لميزان السوق أو الولاء السياسي.
ثالثًا: المبادئ الحاكمة لنظام الصحة النهضوي
- العدالة الصحية: توزيع عادل للموارد، البنية، الكوادر، بين الريف والمدينة، الأغنياء والفقراء، المركز والهامش.
- الرعاية الشاملة: صحة جسدية، نفسية، ووقائية متكاملة.
- الاستقلال عن الفساد والمحاصصة: لا واسطة في حق العلاج.
- المجانية في الخدمات الأساسية: خصوصًا الطوارئ، الصحة الإنجابية، صحة الأطفال، الأمراض المزمنة.
- توطين الكفاءات: وقف نزيف الأطباء إلى الخارج، وتحفيز العودة، بتأمين ظروف عادلة وبيئة بحثية–مهنية راقية.
- الشفافية والمسؤولية: كل خدمة صحية تخضع للمراقبة والتقييم والمساءلة.
رابعًا: الصحة النفسية – الاعتراف بالجرح الخفي
في مجتمع كالمجتمع السوري، المدمى بالحروب والقهر والشتات،
لا يمكن بناء نهضة دون التأسيس الجاد لمنظومة صحة نفسية:
- مراكز دعم نفسي مجتمعي في كل محافظة.
- دمج الصحة النفسية في الرعاية الأولية.
- معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة بشكل منهجي.
- دمج الناجين من التعذيب والاعتقال ضمن برامج علاج وإعادة تأهيل شاملة.
- كسر وصمة المرض النفسي ثقافيًا وتعليميًا.
خامسًا: خارطة الطريق لبناء نظام صحي نهضوي
- إعادة هيكلة وزارة الصحة لتصبح جهة تنظيمية لا فقط خدمية.
- الاستثمار في البنية التحتية الطبية في كل منطقة محرومة.
- إقرار قانون التأمين الصحي الوطني الشامل.
- تحييد النظام الصحي عن التجاذبات السياسية والولاءات.
- دسترة الحق في الصحة بوصفه أحد ضمانات المواطنة الكاملة.
- تفعيل الشراكات مع المجتمع المدني والقطاع غير الحكومي بضوابط أخلاقية واضحة.
- تبني مقاربة “الصحة المجتمعية” التي ترى في الصحة مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع.
خاتمة الفصل: الصحة كأداة لتحرير الإنسان من الخوف
لا نهضة لمجتمع يخشى المرض أكثر من أن يحلم،
ولا بناء لدولة تخاف من جسد مواطنها السقيم،
ولا شرعية لحكم يُهمل حياة من لا صوت له.
في مشروعنا، الصحة ليست بندًا في برنامج تنموي،
بل معيارًا لما إذا كانت الدولة تحترم حياة الإنسان أو لا.
وحين يشعر المواطن أن جسده ليس عبئًا،
وأن مرضه لا يهمشه،
وأن آلامه لا تُهمل لأنها لا تُرى،
عندها فقط نكون قد بدأنا نخطو نحو سوريا الجديدة…
حيث الشفاء فعل سيادي،
والصحة كرامة يومية،
والعلاج ليس نداء يائسًا، بل حقًّا لا يُساوَم عليه.