القسم الثاني – الباب الثالث
الفصل التاسع عشر المرأة في مشروع النهضة
من التهميش الرمزي إلى التمكين الشامل
مدخل فلسفي – وجودي
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن يُبنى على نصف الحقيقة، ولا أن ينشد الحرية وهو يستبقي نصف المجتمع خلف أسوار التهميش الرمزي أو العزل البنيوي.
إن المرأة ليست “قضية” تُدرج ضمن جدول الإصلاحات، ولا “شريحة” من شرائح المجتمع، بل هي الوجود الموازي للرجل في إنتاج الحياة، والمعنى، والمجتمع، والدولة.
وفي سوريا، كما في معظم المجتمعات المقهورة، لم تكن المرأة فقط ضحية لسلطة سياسية مستبدة، بل ضحية لمنظومة اجتماعية–ثقافية–دينية أنتجت استبعادها، ثم شرعنته، ثم جعلته “طبيعيًا” في العيون والعقول.
ولهذا، فإن تحرير المرأة لا يُختزل في “التمكين السياسي” أو “رفع الكوتا التمثيلية”، بل هو تحرير للوعي الجمعي من أعمق آليات إعادة إنتاج الظلم باسم التقاليد، أو الدين، أو الأمن، أو حتى المصلحة.
أولًا: التهميش المركّب – كيف أُقصيت المرأة في سوريا من المعادلة النهضوية؟
حين نُشرّح التجربة السورية، نجد أن تهميش المرأة لم يكن حدثًا، بل بنية طويلة الأمد، تأسّست على خمسة مستويات متراكبة:
- التهميش القانوني:
- قوانين الأحوال الشخصية المستندة إلى فقه ديني ذكوري.
- غياب الحماية القانونية من العنف الأسري والزواج القسري.
- قوانين التمييز في الميراث، والجنسية، وحرية التنقل.
- ضعف تمثيل النساء في التشريع نفسه، بوصفه أداة ذكورية لتحديد مصيرهن.
- التهميش الاجتماعي–الثقافي:
- إنتاج صورة المرأة على أنها كائن ضعيف أو تابع أو مصدر فتنة.
- تقليص أدوارها في العائلة إلى الإنجاب والرعاية.
- تصوير العمل خارج المنزل كـ”تجاوز لدورها الفطري”.
- التهميش الاقتصادي:
- ضعف فرص العمل للنساء، وتفاوت الأجور.
- غياب الحوافز القانونية لدعم ريادة الأعمال النسائية.
- تقييد الحركة والقرار الاقتصادي عبر سلطة العائلة أو الزوج.
- التهميش السياسي:
- رمزية المشاركة السياسية دون قوة حقيقية.
- استغلال المرأة في “المنابر الرسمية” كواجهة، مع إقصائها من دوائر القرار الفعلي.
- التهميش في سردية الدولة والمجتمع:
- تغييب النساء عن المناهج التعليمية، والكتب الرسمية، والاحتفالات الوطنية.
- اختزالها في صورة الأم المضحية، أو الزوجة الصالحة، أو الأخت الطاهرة… دون تمثيل لكونها كائنًا حرًا مستقلًا فاعلًا في الفضاء العام.
ثانيًا: فلسفة النهضة وتفكيك المركزية الذكورية
في مشروع النهضة السورية، لا نُطالب فقط بـ”حقوق المرأة”، بل نُعيد تعريف المرأة بوصفها شريكًا متكافئًا في إنتاج العقد الاجتماعي، لا متلقيةً له.
فلسفيًا، نحن نرفض مقولة “المرأة نصف المجتمع”، لأنها تختزل دورها في كمٍّ حسابي، بينما هي كاملة بذاتها، كما الرجل، لا بوظيفتها بالنسبة له.
وتفكيك المنظومة الذكورية لا يعني العداء للجنس الآخر، بل يعني تفكيك نظام رمزي–مؤسساتي–ثقافي يقوم على هيمنة الرجل، ويُنتج الأنثى بوصفها ناقصة، ملحقة، أو تابعة.
ومنهجيًا، فإن تحرير المرأة ليس فصلاً من فصول الإصلاح… بل هو منبع للتحرر الجماعي، لأن أي مجتمع لا يعترف بحرية المرأة، لا يعرف الحرية.
ثالثًا: ملامح التمكين في الدولة النهضوية
لكي تتحول فلسفة النهضة إلى واقع، لا بد من مشروع شامل لتمكين المرأة في كل المجالات، دون اختزال ولا ترميز استهلاكي، ويشمل:
- تمكين قانوني:
- إصلاح شامل لقوانين الأحوال الشخصية بما يضمن المساواة الكاملة.
- سنّ قوانين تحمي المرأة من العنف بكافة أشكاله، وتمنحها الاستقلال القانوني الكامل.
- ضمان حقها في منح الجنسية، والتنقل، والحضانة، والميراث دون وصاية.
- تمكين اقتصادي–اجتماعي:
- دعم المشاريع النسائية الصغيرة والمتوسطة.
- تمويل برامج مهنية وتدريبية للنساء في الريف والمناطق المهمّشة.
- تأسيس نظام حضانة ورعاية أطفال مموّل من الدولة لدعم الأمهات العاملات.
- تمكين سياسي–تمثيلي:
- فرض كوتا انتقالية تضمن تمثيلًا حقيقيًا للنساء في السلطات الثلاث.
- تأسيس معهد وطني لقيادة النساء سياسيًا وقانونيًا ومجتمعيًا.
- تشجيع النساء على الترشح، والمشاركة في صنع القرار، لا فقط التصويت.
- تمكين معرفي–ثقافي:
- مراجعة شاملة للمناهج التعليمية التي تُكرّس الأدوار النمطية.
- دعم الفنون والإعلام النسوي البديل الذي يعكس قضايا النساء بصدق.
- حماية الحريات الشخصية من الخطاب الديني–الاجتماعي الموجّه ضد المرأة.
رابعًا: المرأة كفاعل لا كموضوع – من موقع الضحية إلى موقع الفاعلية
النهضة لا تنظر إلى المرأة بوصفها “مسكينة يجب إنقاذها”،
بل بوصفها ذاتًا حرة قادرة على المشاركة، والقيادة، والتغيير.
وما تحتاجه النساء في سوريا ليس الرثاء ولا الامتيازات، بل حق الاعتراف الكامل، والمساواة في الحضور، والقدرة على صناعة المصير.
والمجتمع الذي لا تُؤخذ فيه المرأة على محمل الجد، لن يُؤخذ هو نفسه على محمل الجد في تاريخه أو في مستقبله.
خامسًا: تحديات يجب مواجهتها بوضوح
لتحقيق هذا التحول البنيوي في مكانة المرأة، لا بد من مواجهة التحديات الآتية بجرأة:
- الخطاب الديني التقليدي الذي يُعيد إنتاج التبعية.
- البنية العائلية الأبوية التي تُمارس القمع باسم الحب والرعاية.
- الوعي المجتمعي القاصر الذي يرى في تحرر المرأة خطرًا على “الهوية”.
- السلطة الذكورية السياسية التي تُقصي النساء أو تهمّشهنّ كجزء من إعادة إنتاج النخبة الذكورية.
خاتمة الفصل: المرأة بوصفها بوصلة النهضة
حين تُحرر المرأة، يُحرر المجتمع نفسه من تاريخه المزوّر عن القوة، والقيادة، والطاعة، والنقص.
وفي مشروع النهضة، المرأة ليست مكمّلة للمجتمع، بل كاشفة لمستواه الحقيقي.
فالحرية التي لا تشمل المرأة، ليست حرية.
والدولة التي لا تُبنى مع المرأة، ستُبنى ضدها، وبالتالي ضد ذاتها.
نحن لا نُدرج المرأة في المشروع النهضوي لأننا “نحتاجها”،
بل لأن المشروع نفسه لا يكون مشروعًا… إن لم تكن المرأة في قلبه.