القسم الثاني – الباب الثالث
الفصل الثالث والعشرون إعادة التأهيل الشامل للمتضررين من الحرب
نحو مشروع وطني للشفاء المجتمعي
مدخل فلسفي–إنساني
الحرب لا تخلّف فقط دمارًا ماديًا…
بل تنسف الروح، وتُهشّم الذاكرة، وتُربك المعنى.
وفي سوريا، لم تكن الحرب مجرد معارك بين أطراف،
بل كانت أعمق تجلٍ لانهيار العقد المجتمعي،
ومحرقةً طالت الإنسان في وجوده وكرامته وكيانه.
ولذلك، لا يكفي في مشروع النهضة أن نُصلح البنية التحتية،
بل علينا إعادة بناء الإنسان المجروح،
إعادة ترميم المعنى، وبلورة مشروع شفاء وطني–سيكولوجي–اجتماعي يعيد للسوريين قدرتهم على الحياة الواعية، لا البقاء فقط.
لأن النهضة ليست فقط إعادة إعمار المدن،
بل هي أيضًا إعادة إعمار النفس، وإعادة لَحْم الذاكرة، واستعادة القدرة على أن نحب، ونحلم، ونبني.
أولًا: الحرب ككارثة إنسانية شاملة – من الجرح إلى التمزّق
الحرب السورية خلّفت ملايين الضحايا، لكن الضرر لم يكن عدديًا فقط، بل:
- نُسف الأمن النفسي: الخوف المزمن، فقدان الشعور بالحماية، انعدام الثقة.
- تآكل الذاكرة الجمعية: كل طائفة أو فئة باتت تملك “سرديتها”، بدلًا من وطن مشترك.
- انهيار الروابط الاجتماعية: تهجير، فقدان، خيانات، صدمات… لا تزال آثارها حيّة.
- الاغتراب الداخلي: حتى من بقي في سوريا يشعر بأنه غريب في وطن لا يعرفه، ولا يعرفه.
هذه ليست مجرد أضرار جانبية…
بل هي أعطاب في نسيج الذات الفردية والجمعية تحتاج إلى مشروع وطني لإعادة التوازن.
ثانيًا: فلسفة الشفاء – من الرثاء إلى المواجهة
نحن لا نطلب من المتضررين “أن ينسوا”،
ولا نعتبر “التسامح” عملية سياسية فوقية،
بل نُعيد بناء فلسفة وطنية للشفاء تقوم على:
- الاعتراف بالألم: لا شفاء بدون تسمية الجرح، وفتح الذاكرة، ومواجهة القبح.
- تفكيك رواية “الضحية الأبدية“: كي لا يتحول الألم إلى هوية.
- تحرير الإنسان من عقدة الذنب أو الانتقام: عبر دعم نفسي ممنهج.
- بناء معنى جديد للانتماء: يعيد ربط الإنسان بوطنه، لا فقط بجراحه.
إن الإنسان لا يخرج من الحرب كما دخلها…
لكنه قد يخرج منها أقوى… إذا وجد يدًا تمتد له، وصوتًا يقول له: لست وحدك.
ثالثًا: خارطة المتضررين – من هو المعني بإعادة التأهيل؟
نعني بـ”المتضررين” هنا كل من تعرض لأحد أو كل ما يلي:
- الناجون من الاعتقال والتعذيب: ذكورًا وإناثًا، ممن لا تزال آثار السجون حية في أجسادهم وأرواحهم.
- النازحون واللاجئون: وما تراكم في ذاكرتهم من فقد وانكسار واقتلاع.
- ضحايا القصف والعنف المباشر: ممن فقدوا أهلهم أو أطرافهم أو منازلهم.
- الأطفال الذين كبروا في العنف: بلا طفولة، بلا تعليم، بلا أمان.
- النساء الناجيات من الاغتصاب أو الاستغلال أو القهر: ممن سُحقن في الصمت.
- الشباب العائدون من الجبهات: وهم يحملون ذنوبًا لم يختاروها، أو موتًا لم يطلبوه.
- العاملون في الإغاثة والطب والمجتمع المدني: ممن استُهلكوا بلا دعم نفسي.
هؤلاء جميعًا هم بنية سوريا المقبلة،
ولا يمكن بناء دولة فوق رمادهم إذا لم نعترف بهم، ونعيد بناءهم.
رابعًا: مكونات مشروع التأهيل الشامل – من الطب إلى السياسة
- التأهيل النفسي:
- برامج علاج نفسي فردي وجماعي.
- دعم متخصص للناجين من العنف والاعتقال.
- مراكز مجتمعية للبوح والحوار والاستماع.
- التأهيل الاجتماعي:
- إعادة دمج الفئات المنعزلة والمنكفئة.
- آليات للمصالحة الاجتماعية بين المجتمعات المتصدعة.
- دعم المبادرات الأهلية لإعادة التفاعل والروابط.
- التأهيل الاقتصادي:
- مشاريع صغيرة للمحرومين من فرص العمل.
- دعم المتضررين من فقدان الممتلكات والفرص.
- منح لإعادة بدء الحياة.
- التأهيل التعليمي والثقافي:
- برامج تعويض تعليمي للأطفال المنقطعين.
- نشر ثقافة اللاعنف، والتسامح، والعدالة.
- دعم الفنون كوسيلة شفاء جماعية.
- التأهيل السياسي–الحقوقي:
- الاعتراف القانوني بالمتضررين.
- ضمان تمثيلهم في هيئات الانتقال والمستقبل.
- مسارات عدالة انتقالية تحترم الألم وتُحاكم الجلاد.
خامسًا: الدولة كحاضنة للشفاء لا كمُنتج للصدمة
في فلسفة النهضة، لا يُطلب من المجتمع أن يُداوي نفسه فقط،
بل يجب على الدولة أن تتحوّل من مصدر للضرر إلى مؤسسة للمعالجة.
ولهذا:
- يجب أن تُنشىء الدولة “هيئة وطنية لإعادة التأهيل المجتمعي”، مستقلة وواسعة الصلاحيات.
- يجب أن تعترف رسميًا بكل الفئات المتضررة.
- يجب أن تُخصّص موازنة مستقلة، وبنية قانونية ضامنة، واستراتيجيات طويلة المدى للشفاء.
فـالنسيان ليس مصالحة،
و”دعونا نبدأ صفحة جديدة” دون اعتراف…
ليس إلا صفعة جديدة.
خاتمة الفصل وخاتمة الباب الثالث: من الألم إلى الفعل – الشفاء بوصفه شرطًا للنهضة
لا تُبنى النهضة على النسيان القسري،
ولا على القفز فوق الحطام،
بل على الاعتراف، والاحتواء، والتحوّل.
الناجون ليسوا عائقًا أمام المستقبل…
بل هم بُناته إن أُعيد إليهم صوتهم.
والجراح، إن لم تُعالَج،
تصبح عُقدًا في ضمير الدولة.
ولهذا… فإن مشروعنا لا يرى في التأهيل بندًا هامشيًا،
بل يراه ركنًا تأسيسيًا لولادة سوريا جديدة،
سوريا تتذكّر… كي لا تكرّر،
وتحمي الجراح… كي لا تنزف مجددًا