القسم الثاني – الباب الخامس
الفصل الواحد والثلاثون التكنولوجيا والمعرفة
من العزلة الرقمية إلى البنية السيادية
مدخل فلسفي: المعرفة قوة… لكنها لا تكفي
في عصرٍ تتغيّر فيه مفاهيم الدولة والسيادة والمعنى،
لم تعد القوة محصورة في الأرض، أو في السلاح، أو حتى في الاقتصاد.
بل أصبحت المعرفة المتصلة بالتكنولوجيا هي رافعة القوة،
وأداة السيادة،
وسلاح السيطرة،
ومجال المعركة القادم.
في مشروعنا النهضوي، لا نرى التكنولوجيا كترف،
ولا كأداة إدارية أو خدماتية فقط،
بل كمجال فلسفي–سياسي–سيادي،
إما أن نكون فاعلين فيه، أو نُختزَل إلى مجرّد تابع مُراقب.
أولًا: ما الذي نُعرّفه بالتكنولوجيا في مشروع النهضة؟
نُعيد تعريف التكنولوجيا هنا ليس بوصفها أجهزة وأنظمة،
بل بوصفها:
“نظامًا معرفيًا–أداتيًا–سياديًا ينظّم العلاقة بين الإنسان والمعلومة، ويُعيد تشكيل البنية التحتية للمجتمع والدولة والوعي“.
وبذلك، تشمل:
- الرقمنة والمعالجة الحاسوبية للمعلومات
- البنى التحتية الرقمية: الإنترنت، الشبكات، الحوسبة السحابية
- إدارة البيانات والمعلومات والمعرفة
- الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي
- أمن المعلومات والسيادة السيبرانية
- التكنولوجيا التعليمية والإعلامية والبحثية
ولا يمكن فصل التكنولوجيا عن الحرية، والعدالة، والهوية، والسيادة.
ثانيًا: سوريا ما قبل النهضة – من الانقطاع المعرفي إلى الاستبعاد الرقمي
لقد خاضت الدولة السورية طوال عقود سياسة متعمّدة تجاه التكنولوجيا:
العزل، لا التطوير.
التضييق، لا البناء.
المراقبة، لا التمكين.
وقد تجلّى ذلك في:
- تأخّر فادح في البنى التحتية الرقمية
- غياب تام لسياسات التحوّل الرقمي
- انعدام مراكز البحث المتقدّم
- هشاشة أمنية سيبرانية كارثية
- استخدام الإنترنت كأداة رقابة لا كأداة معرفة
- تهميش شامل للمجال الرقمي في التعليم، الإدارة، الصناعة، الإعلام
وكانت النتيجة:
– مجتمع غير متصل فعليًا بالعالم الرقمي
– وفرد هش أمام آلة المراقبة
– ودولة تُدار بمنطق الورقة والملف بدلًا من البيانات والمعرفة
ثالثًا: المعرفة كشرط للسيادة – لا سيادة بلا استقلال رقمي
لا يكفي أن نملك الأرض،
بل يجب أن نملك الخريطة.
ولا يكفي أن نملك المؤسسات،
بل يجب أن نملك المعلومة التي تُديرها، وتحميها، وتُنظّمها.
السيادة اليوم تُقاس بقدرتك على:
- امتلاك بياناتك الوطنية
- حماية فضائك الرقمي من الاختراق
- التحكم في أدوات إنتاج المعرفة (لا فقط استهلاكها)
- إنتاج تقنياتك الخاصة
- تمكين مجتمعك من الولوج إلى المعرفة واستخدامها في تطوير ذاته
في سوريا، لا يمكن بناء دولة حديثة دون امتلاك البنية السيبرانية والسيادة الرقمية،
وإلّا فسنُعاد إنتاجنا كمجتمع مستعمَر معرفيًا، ومُدار من الخارج.
رابعًا: التكنولوجيا كأداة تحرير… أو كأداة قمع
ليست التكنولوجيا بالضرورة أداة تحرر،
فهي أيضًا قابلة للاستبداد، إذا لم تُؤسَّس على قيم.
في النظام السابق، كانت:
- أداة مراقبة شاملة
- وسيلة لرقابة المجتمع، وتتبع المعارضين
- شبكة مغلقة في يد الأجهزة الأمنية
- جهاز دعاية بدلًا من التنوير
أما في مشروع النهضة، فنُعيد توظيف التكنولوجيا بوصفها:
- أداة تمكين معرفي لكل مواطن
- شبكة تواصل حر وبنّاء
- منصة للشفافية، لا للإخفاء
- أداة لتجاوز المركزية، وتمكين المناطق
- وسيطًا لتحديث الإدارة والتعليم والخدمات
خامسًا: من العزلة الرقمية إلى البنية السيادية – خارطة النهضة الرقمية
لكي نخرج من حالة الانفصال عن العالم التقني، ونبني بنية سيادية رقمية، لا بد من مشروع شامل، يقوم على:
- البنية التحتية:
- بناء شبكة وطنية مستقلة وآمنة للاتصالات والإنترنت
- نشر الألياف الضوئية والبنى الداعمة في كل المناطق
- ضمان وصول الإنترنت للجميع كحق مدني
- المؤسسات:
- تأسيس وزارة للابتكار والتكنولوجيا والبيانات
- إطلاق هيئة للسيادة الرقمية تُعنى بحماية الفضاء المعلوماتي الوطني
- دعم مراكز البحث التكنولوجي وتوطين الذكاء الاصطناعي
- القوانين:
- إقرار تشريعات لحماية البيانات الشخصية
- ضمان حرية التعبير الرقمي
- تشريعات ضد المراقبة والاحتكار التقني
- الاعتراف بالحق في الخصوصية الرقمية
- المجتمع:
- إدخال الثقافة الرقمية في التعليم منذ المراحل الأولى
- دعم التعلّم المفتوح، والتعليم الإلكتروني، والمنصات الرقمية
- تحفيز ريادة الأعمال التقنية
- دعم النساء والفئات المهمشة في الولوج إلى العالم الرقمي
سادسًا: التكنولوجيا كرافعة للنهضة الشاملة
في مشروع النهضة، لا تُفصل التكنولوجيا عن:
- التعليم – إذ تُعيد تعريف المعرفة والعملية التعليمية
- الاقتصاد – إذ تخلق فرصًا جديدة وتحرّر الأسواق المحلية
- العدالة – إذ توفّر الوصول إلى القانون والمعلومة
- الإدارة – إذ تُبسّط وتُسرّع وتحمي
- المشاركة – إذ تخلق فضاءً عامًا رقميًا مستقلًا
التكنولوجيا، إذًا، ليست مجالًا ملحقًا،
بل أساس بنيوي من أسس النهضة السيادية.
خاتمة الفصل: من العزلة إلى المبادرة – التكنولوجيا بوصفها بوصلة المستقبل
في مشروعنا، نؤمن أن أي نهضة لا تتأسس على المعرفة، ولا تُفعّل التكنولوجيا كأداة حرية وعدالة،
هي نهضة معلّقة في الماضي.
فالمجتمع الذي لا يُنتج أدواته،
سيُدار بأدوات غيره.
والدولة التي لا تُدرك أن معركتها في الفضاء الرقمي لا تقل عن معركتها في الأرض،
ستخسرها قبل أن تبدأها.
من هنا، فإن التكنولوجيا والمعرفة،
ليستا خيارًا تطويريًا،
بل ركيزة سيادية–وجودية،
يُبنى عليه مشروع النهضة،
وينهار في غيابه أي حلمٍ بالحرية والسيادة.