web analytics
القسم الثاني – الباب الخامس

الفصل الثاني والثلاثون الرياضة

من التهميش المؤسسي إلى فضاء للهوية والصحة والتنمية

مدخل فلسفي–اجتماعي:

حين تُختزل الرياضة في البطولات، وتُربط بالنجاح القَطَعي أو بالإنجازات الدولية فقط، فإننا نُفرغها من معناها الأعمق، ونتناسى أنها ليست مجرّد منافسة، بل فضاء تكويني للإنسان، ومجال تعبيري للهوية، وأداة تنموية للمجتمع، وبنية مؤسسية تعكس وعي الدولة بمواطنيها.

في مشروع النهضة السورية، لا ننظر إلى الرياضة بوصفها ملحقًا ثقافيًا أو وسيلة دعاية وطنية، بل بوصفها مكونًا بنيويًا في بناء الإنسان السويّ، وفي تعزيز الرأسمال الصحي والاجتماعي، وفي تشكيل المجال العام خارج الاستقطاب السياسي والديني والطائفي.

الرياضة ليست ترفًا، بل حق، وليست نشاطًا ثانويًا، بل رافعة لبناء الكرامة الجسدية، والمسؤولية الفردية، والانتماء الجماعي. ولذلك فإن إقصاء الرياضة، أو تهميشها، أو تحويلها إلى واجهة نفعية فارغة، هو إقصاء للإنسان ذاته من أحد أكثر مجالاته حيويةً وتعبيرًا عن ذاته–جسدًا وروحًا ومجتمعًا.

أولًا: الرياضة في التجربة السورية – من التجاهل المؤسسي إلى التوظيف الدعائي

لم تكن الرياضة في سوريا نتاجًا لرؤية تنموية أو ثقافية متكاملة، بل غالبًا ما كانت ضحية لثلاث آفات كبرى:

  1. الإهمال البنيوي:

حيث حُرمت الرياضة من الميزانيات، والتخطيط طويل الأمد، والدعم المؤسساتي الجاد، وظلت حبيسة المنشآت المتهالكة والمقاربات الشكلية.

  1. التسييس والانتهازية:

إذ تحوّلت البطولات الرياضية إلى أدوات دعائية للنظام، تُوظَّف سياسيًا، وتُربَط باسم الرئيس أو الحزب، ويُستثمر فيها الفائز كرمز للطاعة لا كنموذج للتفوق.

  1. الإقصاء الاجتماعي والجندري:

إذ ظلت الرياضة مساحة مغلقة على الذكور، وأُقصيت فيها الفتيات والنساء، وافتقرت إلى دمج ذوي الإعاقة، أو القرى، أو المجتمعات الطرفية.

وهكذا، غاب عن الرياضة بعدها التكويني، وغُيِّب عنها دورها في بناء الإنسان الحرّ، وتحولت إلى حلبةٍ حزبية لا تنتمي للناس… بل تُدار باسمهم.

ثانيًا: الرياضة كمنظومة تكوينية – فلسفة بديلة تُعيد بناء الجسد والهوية

في فلسفة النهضة السورية، نعيد تعريف الرياضة بوصفها:

“نظامًا ثقافيًا–جسديًا، يُسهم في تكوين الإنسان الحرّ، وتعزيز قدرته على إدراك ذاته، وتحمّل مسؤولياته، والانخراط الواعي في مجتمعه، عبر رعاية الجسد لا إخضاعه، وتحرير الحركة لا تسييسها، وخلق بيئة إنسانية يتكامل فيها التنافس مع القيم، والصحة مع الانتماء، واللعب مع البناء المعنوي.”

وعليه، فإن الرياضة، ضمن هذا التصور:

  • تُعيد الإنسان إلى جسده كفضاء حر، لا كأداة عمل أو طاعة.
  • تُعلّم المشاركة والتنافس والانضباط والمسؤولية.
  • تُعيد للهوية الوطنية معناها الجماعي اللاعنفي.
  • تفتح المجال العام لغير المسيسين، وللطبقات المهمشة، وللفتيات، ولذوي الإعاقة.
  • وتؤسس لنظام تربوي–تنموي متكامل، لا لاحتفالات موسمية مجتزأة.

ثالثًا: محاور الإصلاح الرياضي في الدولة النهضوية

لكي تصبح الرياضة عنصرًا بنيويًا في مشروع النهضة، لا بد من العمل على المحاور التالية:

  1. دسترة الحق في الرياضة كحق إنساني واجتماعي عام.
  2. إعادة بناء البنية التحتية الرياضية في كل المناطق، ودمج الريف والمناطق المهمّشة.
  3. تفعيل التربية الرياضية في المدارس وفق فلسفة تكوينية، لا مجرد مادة ثانوية.
  4. دمج الفتيات والنساء في كل الأنشطة الرياضية، بدون وصاية أو تمييز.
  5. إنشاء اتحادات رياضية مستقلة، غير تابعة للأجهزة الأمنية أو السياسية.
  6. تمكين ذوي الإعاقة من الوصول المتكافئ للرياضة والمسابقات.
  7. تحرير الإعلام الرياضي من التمجيد والتسييس، وتحويله إلى نقد معرفي وتحليلي بنّاء.
  8. ربط الرياضة بالصحة العامة، والعلاج النفسي–الاجتماعي، والتنمية المستدامة.

رابعًا: الرياضة والهوية الوطنية – من الطاعة الرمزية إلى الانتماء الحي

الرياضة، في لحظاتها الصادقة، تُعيد تعريف معنى الوطن خارج اللغة الخشبية.
ففي الملعب، لا يعود الفرد ابن طائفة أو حزب أو طبقة، بل يصبح:

  • فاعلًا في مجتمع حي،
  • يتشارك مع غيره في قيم الانضباط والتنافس والتعاون والاحترام،
  • ويعيد تمثيل وطنه من موقعه الجسدي–الروحي، لا من موقع الانتماء المفروض.

وهذا ما يجعل من الرياضة مجالًا حيويًا لإعادة بناء الانتماء الوطني،
لا كهوية مغلقة، بل كمساحة لقاء وتعدد وتجسيد للكرامة الجمعية.

خامسًا: الرياضة بوصفها رافعة للعدالة والتنمية المتوازنة

لا يمكن لأي مشروع عدالة حقيقية أن يتجاهل دور الرياضة في:

  • ردم الفجوة الطبقية في فرص الترفيه والصحة.
  • فتح المجال أمام المهمشين في تمثيل بلدهم والتعبير عن قدراتهم.
  • بناء اقتصاد رياضي وطني مستدام، يشمل التصنيع، والتسويق، والمهن الرياضية.
  • تعزيز قيم اللاعنف والانضباط في مجتمع مزّقته الحرب، وجعلت من العنف لغة سائدة.

إن الرياضة، بهذا المعنى، أداة إعادة بناء معنوية وجسدية لوطنٍ جُرّح كثيرًا… لكنه لم يمت.

خاتمة الفصل وخاتمة الباب الخامس:

ليست الرياضة في مشروع النهضة “متنفسًا” أو “ترفًا”،
بل هي إحدى أكثر أدوات بناء الإنسان والمجتمع فعاليةً، وتعبيرًا عن الكرامة، وتجسيدًا للهوية.

إنها اللحظة التي يتكامل فيها الجسد بالعقل، والمشاركة بالاحترام، والفعل بالتوازن.

وحين تُستعاد الرياضة كحق،
ويُحرر الجسد من الخوف والتهميش،
ويُعاد بناء الميدان لا كصورة، بل كمعنى…
تبدأ النهضة من جديد، لا من فوق الرأس فقط،
بل من القدمين…
حيث الإنسان يركض نحو حريته، ويقفز فوق قهره،
ويصنع من الملعب… وطنًا مؤقتًا للحلم الممكن.